أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الاثنين، 4 ديسمبر 2017

يا خضر أخضر..!









لم تتركني المرأة ذات السبعين ربيعًا أو يزيد، مع خططي لسماع كلاسيكياتي بسماعة الأذن؛ علاج من التلوث السمعي ألجا إليه في الطريق من بيت لحم إلى رام الله. تجلس بجانبي في المقعد الخلفي، تنهض وتنظر إلى الخلف، إلى صندوق السيّارة، لست فضوليا ولكن تكرار المحاولات، والتأفف والتأسي جعلني أسألها عن الأمر، فتبين إنها جاءت من رام الله إلى بيت لحم لتصطحب تمثال للخضر الأخضر، ترافقه في رحلته لكي يستقر على عتبة أحد المنازل. إنها تخشى على التمثال المصنوع من الحجر، من الكسر.
سألتها لأبدد خوفها الذي بدا مرضيا، وبدت لي امرأة خارجة من التاريخ وكأنها تصون بقلقها على الخضر، تراثا ممتدا:
-أكيد شُغل أكرم..؟!
فأجابت بنعم، وسألتها لماذا لم تلجأ لصنع التمثال في رام الله، وأجابت كما توقعت انها أرادت تمثالاً تمتد تفاصيله على تراث الحجّارين الممتد لدى فناني بيت لحم.
قلت لها، بان رام الله أيضا اشتهرت بنحاتيها، كأبي الصادق وهو من جماعة شهود يهوه الذي صنع اسود رام الله على المنارة، والتي فككت بعد الاحتلال، ليعاد تركيبها في ميدان الساعة.
لم يزيد طمأنتي لها، إلا قلقا لديها، ولم يمنعها من فك الحزام والنظر إلى الخلف مع الارتفاع عن المقعد والاحتكاك بي، خشيت من المطبات على التمثال، وبدا لي ان المطبات لديها تحمل أيضًا معنى رمزيا أكثر من كونها تشكل خطرا على التمثال؛ مطبات الأزمان وتقلباتها.
الحجارة في فلسطين تتنفس، وتعيش، فلسطين هي حضارة الحجارة، تمثلها السابقون وما زلنا نجدها كحلقات حضارية متواصلة ومتداخلة. لم ترتح المرأة حتى أوقفت السيارة وجلبت التمثال من الخلف واحتضنت طوال الطريق، لتشعر بطمأنينة على القديس الشعبي.
لم يثق الفلسطينيون بالأنبياء بقدر وثوقهم بالأبطال الشعبيين، وهم ينتقلون من دين إلى آخر اصطحبوا معهم قديسيهم، وإن بأسماء مختلفة لزوم التقية، وما زالت القرابين تقدم للخضر في الطيبة والخضر، وفي اللد تحوَّل تقديم القرابين إلى قضية وطنية في مواجهة دولة الاحتلال والبلدية، ورمزًا للتشبث بالتقاليد الفلسطينية وبالأرض، وهذا هو التجلي الحقيقي لمفهوم القديسين.
تتبدل الدول والاحتلالات، كل فاتح وغاز قضى وطره في شعبنا، وطواه التاريخ، ومثلما بدت رحلة المرأة مع الخضر من بيت لحم إلى رام الله رمزا للحفاظ على القديس الشعبي، هكذا كانت رحلات شعبنا في الزمن، نسغ الهوية المتناقل عبر الزمن.
خلق الرب العالم في ستة أيام، ولكنه لم يسترح في اليوم السابع، خصصه لخلق فلسطين، التي يرنوا إليها في اليوم مرتين، والبشر يتطلعون إليها في كل الأوقات.
**
الصورة: كنيسة الخضر في الطيبة 19-9-2015م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق