أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الثلاثاء، 4 يوليو 2017

بين تجليات الفرح، والدم، وعجائبيات الموت والحياة/إياد شماسنة





يشكل الروائي الفلسطيني أسامة العيسة، حالة مختلفة في الأدب والرواية الفلسطينية خاصة والعربية عامة، هو كاتب صحفي محترف للمقال الصحفي، يمارس المهنة منذ سنوات الثمانينات من القرن العشرين، بالإضافة إلى القصة القصيرة والرواية، صدر له مؤخرا رواية وردة أريحا عن دار كل شي في حيفا، وبعدها بفترة قصيرة رواية قط بئر السبع ضمن سلسة روايات الهلال.

رواية وردة أريحا، على حد علمي كتبت منذ مدة، أي أن هناك فارق بالسنوات بين زمن كتابتها وتاريخ نشرها، حيث أن المسؤولية التي ألقتها رواية العيسة "مجانين بيت لحم، 2013م" على كاهل كاتبها بفوزها بجائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2015م، جعلت كاتبها يتأنى ويراجع الرواية من جديد، بعد الجائزة عاود إصدار روايته السابقة " قبلة بيت لحم الأخيرة" ،2016 في طبعتها الثانية، ثم مجموعة " رسول الإله إلى الحبيبة2017م.

كاتب مثير للأسئلة
المتابع لأدب أسامة العيسة السردي يخرج باستنتاج وحيرة: العيسة كاتب بارع، مدهش، لكنه غير تقليدي، كثيرًا ما أسمع سؤالاً: هل يكتب أسامة الرواية والقصة القصيرة فعلاً؟؟ أين العناصر الفنية لهذه الأعمال في أدب أسامة العيسة؟ الجواب: أسامة يجرب أساليب مختلفة في السرد، ويبتكر أسلوبه الخاص في تقديم الرواية الفلسطينية من البسطاء وإليهم، يبحث في الغرائب والعجائب، والأساطير والخرافات والطقوس، والعقائد والمعتقدات، تقاطعاتها واختلافاتها، جذورها وفروعها وتجليات ذلك كله في حياة الناس وأساليبهم ، وكيف ينعكس ذلك على أسلوب حياتهم المليئة بالخوف من المرض والغزاة والموت والحرمان، ومن مصاصي الدماء؛ جامعي الضرائب والإتاوات.
يستخدم أسامة العيسة تقنية النص المفتوح في أعماله، يظلمها بتجنيسها أدبيا بوصفها قصة أو رواية، النص المفتوح أكثر اتساعًا، كما أنه أكثر احتمالا للتجريب، لا ينفي ذلك أن رواية وردة أريحا أو ما قبلها روايات، لكنها ليست روايات تقليدية، هي روايات تغيظ الروائيين، والصحفيين، تنتهج السهل الممتنع، وتزوج فن الحكي بالنص المفتوح في شكل روائي.
بالرغم من كل القول الذي يثار حول أدب العيسة، فإنه يتمسك طيلة العمل بخيط روائي رفيع، قوي ومتين، يغزل حوله العمل، هذا العمل ليس بقصد التسلية، ليس بقصد التأريخ، لكنه بقصد التحيز، العيسة متحيز جدًا للهامش الأصلي، لابن البلد، بنت البلد، صاحب الأرض الأصلي، الذي يحمل هويتها ويأكل ترابها وخبزها في تبدل الدول والفصول، تأتي الإمبراطوريات، تمتص دمه وتمضي، ينقب عن القسوة، يعريها، وينثرها في الهواء، يقتنص العجائبيات، ويجدد ارتباطنا بالأرض، بالماضي، بالتراث، دون تقديس، بعين الباحث والروائي والمنتمي، هذا الماضي الذي قطعتنا عنه النكبات والنكسات وموت الآباء والأجداد بين الحقول والغابات والمعتقلات، في الوطن والشتات. فما عاد أحد يحدثنا عنه، أو يحكي لنا الحكايات، فهانت علينا التفاصيل أولا ثم الأشياء الكبيرة

سيمياء العنوان وتجليات التأويل
وردة أريحا، تعرف أيضا بشجرة مريم، كف العذراء ،نبات الطلق، كف مريم، عشب حولي قصير ينمو بعد سقوط الأمطار في الخريف مع بداية الشتاء في الأماكن ذات التربة الطينية، الحصوية التي تستقبل مياه السيول. تجف النباتات بعد نفاذ الرطوبة في التربة، وتلتف الأفرع إلى أعلى لتكون على شكل كرة تشبه قبضة اليد المغلقة بأحكام على الثمار الناضجة الجافة
عندما يحصل النبات على الرطوبة من الأمطار أو الغمر بالماء فإن الفروع الميتة تتفتح منبسطة إلى الخارج لتحرر بعض البذور الموجودة في الثمار، وعند حدوث الجفاف فإن الفروع تلتف مرة أخرى منقبضة إلى أعلى مرة أخرى، وهذا النظام الميكانيكي يؤكد ويساعد على استمرار حياة هذا النوع في البيئة الصحراوية القاسية. وقد ورد في بعض الكتب إن هذا النبات لا يموت إطلاقًا.
هل هذه هي حكاية الموت والانبعاث في التاريخ والتراث العربي، وفي الموروث الفلسطيني العتيد؟ هل أراد أسامة العيسة قاصدًا أم مصادفة أن يختصر أو يرمز لحكاية القتيلة ويجري تداخلاً بين  حكاية وردة أريحا وفاطمة الضاحكة وفلسطين المسلوبة؟ الروائي وحده يمكن أن يفسر ذلك. وقد ورد في سفر الإلهيات 24/14 إن العذراء المباركة، أم المسيح قد أعلنت عن نفسها في كل يوم، وعلى لسان الكنيسة أنها مثل وردة أريحا.
 ربما يفسر ذلك ما يقوله الكاتب في موقع كتارا "أنه من واجب المبدع الفلسطيني أن يغوص عميقًا في تراثه وتاريخه وحكايات ناسه، كفعل مقاومة في ظل الظروف التي تستهدف الهوية الوطنية".
هذا ويقول موقع مخصص لوردة أريحا ومستخلصاتها على شبكة الانترنت "يسمى النبات الرائع الذي ينمو في وادي البحر الميت على حافة أريحا في صحراء البحر الميت في المسيحية "مصنع القيامة" لأنه يرمز إلى قيامة يسوع. ويقال إنها منحت هدية الخلود عندما وضعت ماريا كفن ينتمي إلى طفلها الخائف عليها. ازدهرت الوردة بجانب العائلة المقدسة أثناء فرارهم إلى مصر، وازدهرت في يوم ميلاد يسوع وجفت وأغلقت في وقت صلبه وفتحت مرة أخرى في يوم عيد الفصح.[1]

الرواية وحرفة الكتابة
أسامة العيسة ، فنان في فن الحكي بلا منازع، حكاّء من الطراز الجميل، يأخذنا من اليمن حتى بيت لحم، يعبر الماء والصحراء، يحكي لنا عن المقامات والأولياء والخونة، يروي الحكايات والخرافيات عن مريم  العذراء والخضر الأخضر ، القديسين المسيحيين والأنبياء السماويين، والأولياء المسلمين، يستكشف العلاقة بين الإنسان ومكونات الطبيعة، الماء المقدس في القدس وبيت لحم،، التراب، والمغارات، الجبال، الطين، النهر والنبع، الأرض والسماء.، من وقف موقفًا ومن نافق، ومن تعاون مع العدو، ومن طعن الثورات في قلبها، ومن استثمرها.

القضية الروائية المبتكرة
في رواية وردة أريحا، يثير العيسة قضية نادرة في الأدب الروائي الفلسطيني الذي يحفل أدب النكبة او تحطيم التابوهات "مؤخرا"، هذه القضية هي الضحك والمرأة، تقتل المرأة فقط لأنها تضحك، هو القاتل القادم من الماضي، متعبًا مهلهلاً، يحمل طبره العثماني المبلل بالخوف والهزيمة والدم، يهمله أهل القرية" قرية الدير" لكنهم يعدونه بفاطمة الضاحكة، المنفتحة على الحياة، الكافرة بالحزن، المؤمنة بالانطلاق والطبيعة، في قرية يحتل الموروث الديني الشعبي  كثيرًا من إيمانها، وخرافاتها، ولكن مع كل موروث الإيمان، وسطوة الأولياء والقديسين، والاستعانة بهم في دفع الظلم والخوف والعدوان، لكن الظلم يقع ويجد تبريره، فتقتل فاطمة، يكون القاتل واحدًا والشهود كثيرون، وفاطمة لا بواكي لها، والضاحكة المستبشرة لا ثأر لها، ليست وحدها، هناك الكثيرات ممن روى دمهن الأرض والتراب، ولو أقيم على كل دم قتيلة نصبًا  لامتلأت الأرض بالقديسات المظلومات.
ضاعت فاطمة وبعد تسع سنوات ضاعت فلسطين، ماذا أراد أسامة العيسة أن يقول لنا؟ قتلنا بنات فلسطين، فقتلت فلسطين؟ تلنا الضاحكة الصغيرة فسرقت الضاحكة الأم!!
هل قتل الرجل المرأة في رواية العيسة أم قتلتها العادات والتقاليد، الولاء التام للكآبة، والظلم الاجتماعي الذي تواطأ عليه الجميع بدءً من إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق كما أعطيت فلسطين بناء على وطأة تاريخ مزور ممن لا يملك لمن لا يستحق؟ هل فاطمة الضاحكة هي فلسطين؟
يستخدم العيسة في روايته عدة أساليب، السرد، والبولفونية، والفانتازيا، ويقترب كثيرًا من الأجواء التي سادت في برّ القدس الجنوبي اجتماعيًا وجغرافيًا وسياسيًا، في النصف الأول من القرن العشرين الذي انتهى بالنكبة الفلسطينية، وتشريد الشعب الفلسطيني محولاً إياه إلى مجموعات ومخيمات لاجئين في الشتات. ويعتبر العيسة، أن من واجب المبدع، أن يغوص عميقا في ثنايا التراث والتاريخ وحكايات الناس، كفعل مقاومة في ظل الظروف التي تستهدف الهوية الوطنية.

السرد العجائبي عند العيسة، الخصوصية الفلسطينية
يعدًّ أسامة العيسة من الأدباء الفلسطينيين القلائل الذين اهتموا بالفكر الميثولوجي/ الأسطوري الفلسطيني ببعديه الروائي والقصصي، من خلال التعبير عن المعتقدات والأفكار الأسطورية وتوظيفهما في فنه القصصي وخصوصًا في مجموعة رسول الإله إلى الحبيبة، أو من خلال مشروعه الروائي الذي استمر منذ قبلة بيت لحم الأخيرة ومجانين بيت لحم، ثم وردة أريحا.
تحفل رواية وردة أريحا بعوالم متعددة ومتشعبة الأجواء، تتراوح بين عوالم أسطورية من شأنها أن تمد القارئ بمادة زاخرة بالغرائب والعجائب، وما حدث، وما تم تخيل أنه حدث، لما تتسم به من خرق للمألوف والمعروف والمعتاد، وتزخر بأفكار قلّما يعرفها الإنسان المعاصر من الجيل الشاب والمعاصر، ولاسيّما تلك التي تتعلق بالدين الشعبي، والأولياء والقديسين وطقوس الماء والأرض والخصب وغيرها من المضامين الفكرية التي تحملها الخرافة في ثناياها، وعوالم شعبية لها أفكارها ومعتقداتها المتسمة بالغرابة طوراً وبالسذاجة طوراً آخر، وربما التطرق أو التساهل طورًا ثالثًا، هذا الكم السردي العجائبي أنتجته عقلية أديب يفهم ما يريد، ويعرف ما يقول منذ الوهلة الأولى وهو يخطط لمشروعه الروائي المتكامل منذ الحرف الأول
السرد العجائبي العربي عمومًا، وعند أسامة العيسة خصوصًا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالموروث؛ إنه ينطلق من تراثٍ خاص له علاقة بالماضي المستعاد فنياً في النص بقلم خبير في المادة التاريخية والعجائبية، وهذا التراث يرسي تقاليد خاصة بوصفه فناً سردياً محدداً ببنى وأنساق معينة تختلف عن المألوف في السرد الروائي، وهو في كل ذلك يتوسل بتقنيات خاصة تنقله من العام إلى الخاص، ومن الشفاهي إلى  الكتابي؛ مستغلاً معطيات التراث، وروايات الرواة والحكائين القادمة من الأعماق الزمنية، من هنا تنطلق العلاقة الثنائية التي نحاول الكشف عنها، ونعني بها جدلية العلاقة بين التراث بوصفه حضارة الأمة وركنها الثقافي المميز، والسرد العجائبي بوصفه نسقاً من أنساق السرد العربي
إن السرد العجائبي يترك أثرًا خاصًا في القارئ خوفًا أو هولاً، أو دهشة أو خيبة، أو مجرد حبّ استطلاع، الشيء الذي لا تقدر الأجناس الأخرى على توليده. حيث أن العجائبي يخدم السرد ويحتفظ بالتوتر: إذ إن حضور العناصر العجائبية يتيح تنظيمًا للحبكة مكثفًا بصورة خاصة، إن وجوده في العمل الأدبي عامة، وعند العيسة خاصة يمنحه قوة ودلالات قادرة على استيلاد الواقع والحقيقة بأكثر من شكل دون الوقوف على الشكل الروائي التقليدي، كما أن السرد العجائبي يملك مرونة تعز في السرد التقليدي تمكنه من حمل الكثير من المرويات والخرافات وصهر الأسطوري والحكائي والخرافي في بنية جديدة تعرض الحقيقة كما يراها الكاتب أو كما يشعرها أو كما تلقاها لا كما وقعت، فوردة أريحا، هي فاطمة التي تموت وتبعث، وهي مريم العذراء، وهي فلسطين، وشدرمة القاتل هو ذاته التراث المنهك، وهو الشعب الذي تم تجهيله وسلبه أحلامه وعلمه طيلة القرون، وقرية الدير هي الرمز للبلاد والقرى، والخضر هي القوة العليا الحافظة التي أسبغ الناس عليها صفات وقوى وتوارثوها فعبرت الأديان والسنوات والقرون والبلدان.
تحيلنا رواية وردة أريحا على فنتازية تاريخية مدهشة، فثمة سحر خاص يحكي عن أجواء الحدث وفضاءاته، إنها تعيدنا إلى سنوات خلت حيث البساطة والاندهاش والسذاجة في الطرح الحكائي، هذا الارتباط بين المحكي وموروثه، يتجلى ويصبح أكثر انصهاراً وتماسكاً على أثر اشتداد نزعة الانفتاح عليه والإفادة منه وتوظيفه، لقد وجد فيه الفنان مختلف العقد والأساليب كما وجد فيه ضالته للسخرية من الواقع.


[1] http://roseofjericho.org/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق