أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الجمعة، 31 مارس 2017

حكاية فصول الوقت/بهاء رحّال





من جديد، يحملنا الروائي الفلسطيني أسامة العيسة في رحلة مع الذاكرة، ويأخذنا إلى أزمنة بالغة الأهمية في التاريخ الإنساني، بلغة رشيقة وحرف لا ينضب ولا يتكاسل أو يتردد، رسماً وتحقيقاً وتقصٍ عميق الدلالة وصادق المعنى، فتجدنا نعيش حيوية السرد الممتع الذي لا يكل منه القارئ، ولا يمل، بل يواصل الإبحار عميقاً في جوف المعنى مع هذا الأسامة، الذي يخلخل الذاكرة، ويعيد لها توازنها، كما يعيد لنا ما كان من خيبات وأوجاع وأمراض، بعضها تجاوزناه، والكثير منها ما زال يرافقنا حتى يومنا.

"وردة أريحا"، رواية أبدع فيها أسامة العيسة، وأثبت جدارته بحرفيته المعهودة، وهو يحلِّق بنا إلى أزمنة القهر والاضطهاد، وما وقع على هذه البلاد من قسوة العباد على العباد، ومن ظلم الحكام الذين توارثوا الأرض، وبنوا فيها مثلما عاثوا فيها فساداً ففسدوا وأفسدوا، وأخذهم العلوّ إلى التيه خسفاً وسخطاً وضياعاً. الأرض التي توارثها أيضاً الأنبياء والأتقياء والأولياء والصالحين، مثلما ورثها الخلفاء والأغنياء والبسطاء والسعداء والبؤساء. الأرض التي تتسع لكل ما فيها من حكايات، وخيبات ومقامات وكتب سماوية وأناشيد وروايات وأسفار مقدسة مبجلة ومؤجلة. فهل ترانا نعيد الزمان إلى أصله يوماً، إلى عهد رأس السنة الفلسطينية، الذي ما كان لنذكره لولا أنك تُذكرنا من خلال "وردة أريحا" بما كان صادقاً في فصول الحياة وأعيادها ومناسباتها، وشكلها الطبيعي الذي يتناسب مع أرض واصلت محاولاتها في العيش غالباً ببساطة وحكمة وتواضع، وزهد في انتظار القيامة.
"وردة أريحا"، نجمة جديدة أضافها العيسة لتنير على صورة ماضٍ نحنُّ له ويَحنُّ لنا، في ثوب الجدات المطرز بنقش كنعان، ولغة الإنسان الفلسطيني الأول الذي وهب البلاد أسماءها وأعيادها وطقوسها القديمة الجديدة، صعوداً ونزولاً من السماء إلى الأرض، في عقاب الإله الذي يحنو على أهله، فيرفعهم تارة إليه، ثم يعيدهم إلى ذاتهم غاضبين. فهذا نسلك يا آدم، يمر في الزمان، والمكان هو أرض مقدسة، لكل الأنبياء والأولياء والصالحين والطالحين، وهو مساحة لكل الأزمنة التي ترافق كل العصور والقصور والممالك. قسوة، وشدة وبؤس حال من غلبته، فمن الجوع تنبت الحكايا، ومن وحل الظلم يندفع الكلام، فتصير القصائد شعراً، ويصبح النشيد أهازيج فرح في وقت الحصاد. ترافق عذراء حزنها على من فقدتهم في الحرب وفُقدت آثارهم، ومن عادوا ينشدون علينا بطولاتهم الكاذبة، فمن يعيد الحياة لعذراء سقطت ضحية كذبة البطولة، بطولة العائدين من الحرب، والحرب لا شأن لها بها، شعوب تقاتل شعوباً، وممالك تنتصر على ممالك والكل هالك.
هو زمان مضى، لكنه كم يشبه الزمان الذي نعيشه اليوم، ونحن نحوم حول الكذبة وننشدها، ويتفاخر كل واحد بطبرِه وعَوَرِه وهَبَله ودجله، ويسوق الواحد منا حكايات بعيدة عن الواقع، ويرسم حوله الأسطورة، وعجائب الأمور، ويتخذ من الحماس ما يدفع بالبقية على الصمت من وقع الذهول، والبقية بائسة في أحلامها، لا يوقظها إلا دجل الكلام وذو الحسد اللعين، والعين والخرافة التي يستكين في ظلها كل من علق البؤس جرساً في حياته. خضراء أخضرٌ مخضرٌ يجيب الدعاء والرجاء والبكاء، خضراء كل بلادنا، ومقامات لها عرش الذاكرة، أولياء وأنبياء ومصطفون وراجفون وعقلاء وبسطاء ومهوسون ومضطربون وراكضون من وهل الحقيقة إلى غابات "شدرمة" ومصائره التي يطيعها، ويرى فيها البعض أنها تُسَلمُهُ وتنجيه وتدفعه ليقوى على الثأر، ثأر الشرف الكاذب في الزمان الكاذب، والضحية فاطمة، ألف فاطمة في البلاد كانت الضحية، ضحية طاهرة ببياض القلب والروح، وقعت في شباك الغدر رغبة في الانتقام التي تسكن عُهر المتخاذلين المُدعّين والمتذاكين، ولا ذنب لها سوى أنها رفضت، رفضت الوقوع معه في الخطيئة، كم من فاطمة كانت ضحية، وكم من فاطمة ستكون!.
"وردة أريحا"، حكاية البلاد وأزمنتها المتعاقبة وما أرسلته السماء لتصير الأرض مقدسة، فجمعت فصول الوقت، ورتبت معاني الحياة بدفء، وتوهجت نوراً في مقامات فوق التلال سطع نجمها، نجمة تتبع نجمة وأرضاً وفيرة الحصاد. خيراً مقدساً بقرابين البسطاء والضعفاء والكرماء والأسخياء دفعاً للبلاء والعناء. فلهذه الرواية وقعها في مشهد البلاد وتاريخها، وهي توثق بشكل رهيب وسرد مدهش يجذبك حتى تود أن لا ينتهي، وهذا ما تمنيته قبل أن تخيب أمنيتي حين اصطدمت بصفحة النهاية عند ساعة متأخرة من عمر الليل، مطلع الربيع الشهي برائحة زهر اللوز ونجمة أريحا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق