أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الاثنين، 21 نوفمبر 2016

أطواق وَجْد من القدس إلى دجلة..!




(2-2)
فُصل المعماري العراقي، رفعت الجادرجي من عمله، وخضع هذا العقل النير، للتحقيق لمدة عامين، بعد سقوط نظام عبد الحكيم قاسم، وعندما تمكن من السفر نحو عام 1965م، جاء وزوجته بلقيس شرارة، إلى القدس. في كتابه (الاخيضر والقصر البلوري/بيروت 1991م) ينقل بوصف حي: "ذهبنا بالسيارة أنا وبلقيس وصديقنا محمود عثمان، ووصلنا القدس بعد الظهر. بعد استراحة قصيرة زرنا في أوّل المساء جامع الحرم الشريف. كانت تلك زيارتي الأولى لذلك الموقع الفريد وبعد التجوال في أزقة ضيقة كنّا نسرع في السير، لكي ندرك المكان قبل غلق الأبواب. دخلنا إلى دهليز طويل، مهجور، مظلم، ثم فجأة أطللنا على ساحة واسعة يمتدّ أحد أضلاعها نحو الأفق السابع بشفق الأصيل، ساحة ذات مستويات عدة في الارتفاع، وقد رصفت بحجر أبيض، ساحة نظيفة، هاجعة. طفنا فيها، ونحن لا ندري إلى أين نتجه، فكل موقع منه مطلٌّ على منظرٍ خلاب".
تأثر الجادرجي بالطاق العراقي (الطَّاقُ لغة: ما عُطف وجُعل كالقوس من الأبنية)، ومنه صمم نصب الجندي المجهول، الذي هدمه لاحقا صدام حسين، وحل محله تمثالا له، هو الذي شاهده العالم يسقط في ساحة الفردوس.
الطاق لاحق الجادرجي إلى القدس: "في ذلك الفضاء الشاسع تناثرت الأبنية، فولدت بينها أحيازًا وفضاءات هادئة مرصّعة بالمباني أو العناصر الصغيرة. وفجأة ونحن نتجول فإذا بسلسلة من الأطواق في وسط الساحة تسمّر نظري. أطواق في جدار يقف متفردا فهو ما تبقى من خرائب سحيقة القدم، وفي أسفله سلّم يؤدي إلى قبة الصخرة. لم أتقرب من السلم، بل مكثت مأخوذا أتأمل أطواقه الجليلة، وشعرت بهزّة تعتريني، لم يهزني مثلها في السابق كيان معماري البتّة. وقفت منذهلا. كانت قبة الصخرة بعيدة أمامي في المرتفع، لكن شعوري خمد نحوها، أو بالأحرى اشتعل شعوري نحو الطاق اشتعال الجمر المستعر حتى أصبحت زيارة قبة الصخرة، شيئا يمكن تأجيله، لدقائق، أو لساعة، بل وحتى إلى الغد، وهو ما حدث فعلا. فقد بقيت مع الطاق أنظر إليه تارة من بعيدة، وتارة أخرى من قريب، ثم أحاول مرة ثالثة أن أنساه، ولو لبرهة لكني مع ذلك أرجع إليه. كان الغروب باردا عذبا، ساكنا، وكان الطاق الأبيض فريدا، نظيفا، مزهوا بالحجر الذي نحت منه. بقيت أتلفت في الاحياز المحيطة به، متجولا بتوءدة إلى ان حان موعد إغلاق الأبواب، فعدنا أدراجنا. لكنّي أعدت الكرة ببصري نحوه من العتبة أنظر إليه وإلى الأرض المتناظرة معه، وعند مرورنا ثانية بالدهليز المظلم لم نسرع الخطى حتى وجدنا أنفسنا في أزقة القدس القديمة".
زيارة القدس، وفتنته بالبوائك، كما تسمى محليا، ويسميها هو أطواق، تركت أثرا على الجادرجي، الذي وجد بعد فصله من العمل وقتا للقراءة، وزيارة أرض للعائلة في ناحية الفحامة على شاطيء دجلة، وبعد الزيارة فكر بتشييد مأوى في الفحامة، ليتخلص من معاناته: "كنت أريد أن أتخلص من كل هذا، وان أفزع إلى ملاذٍ يعيد لي صفاء النفس، فأقف فيه وقوف جياد صافنات عند طاق أشبه بطاق القدس. أجل كان ذلك الطاق هو هاجسي على الدوام. فمنذ أن تعرفت عليه، وأنا أعرج إلى القدس في أغلب سفراتي التي أقوم بها إلى أوروبا، فامكث في فندق على تل (الانتركونتننتال)، ويطل على قبة الصخرة وعلى الطاق من بعيد، فأتأملهما سويعات، وأنا بين الصحو والغيبوبة، وأُعيد الكرة عند إقفالي راجعا من أوروبا إلى بغداد".
كل هذا الشغف، ببوائك القبة، من قبل الجادرجي، أمر يكاد لا يصدق، وتأمله بها هو أشبه بتأمل أسطوري، وعشق صوفي.
وهو يشيد المأوى على شاطيء دجلة، كانت بوائك القدس حاضرة. يقارن بينهما:  "انه في الوقت نفسه مثقل  بخضار البستان (يقصد طاق دجلة)، في حين لم يثقل الطاق، الحرّ، في صحن الجامع الكبير في القدس بأشجار، إلا انهما كليهما لا يمسهما بناء آخر، فكلاهما راكد، الأول ضخم الجسد في مدينة صغيرة ومقدسة، وهو ناصع البياض ومن الحجر، والثاني أفقع من الآجر، الأول في خطر في مدينة القدس، والثاني واقع في مكيدة غدر الفحامة".
ونُفذ الغدر في عام 1968م، عندما هُدم مأوي الفحامة، قريبا من بغداد...!
وكأن ذلك الطاق الممتد من القدس إلى دجلة، الطاق الثقافي الرفيع، حطمه عسكر البوادي القومجية..!
كتب الجادرجي، حكاية البوائك وطاق الفحامة، عام 1980م، وهو في سجن أبو غريب..!
أي سواد هذا، الذي قبل بالزج بعقل مثل هذا خلف جدار..!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق