أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأحد، 20 نوفمبر 2016

موازين الثقافة...!




(1-2)
أثارت البوائك في ساحة مسجد قُبَّة الصخرة، الذي يعتلى مرتفع مُجمع الحرم الشريف، اهتمام الآثاريين الغربيين، وشبهوها بالمآثر الرومانية على مداخل المعابد، ولكنها وفق النقوش التعريفية عليها، فهي تعود لعصر متأخر على عصر عبد الملك بن مروان مشيد القُبَّة، من خراج مصر خمس سنوات.

سبب بناء قُبَّة الصخرة، التي هي نتاج تثاقف الأساليب المعمارية الإسلامية، والبيزنطية، والفارسية، بكل هذه الأبهة، كانت مثار نقاش لدى الإخباريين المسلمين وهم يكتبون "تاريخ منتصرين"، وأيضا "المغرضين" من أحفاد البيزنطيين المهزومين، أمّا وجود البوائك حولها، فهي الأكثر إثارة للتساؤل.
لا يشعر معظم الزوار والمصلين بالبوائك (وهذا أحد أسرارها)، التي تُعرف أيضا بالموازين، فبهاء القُبَّة الذهبية المتلألئة يزيغ الأنظار، أنظار المتعجلين، الصاعدين الأدراج، إلى الجوهرة الذهبية، ولكن هذه البوائك التي لا تظهر مهمتها الوظيفية بسهولة، وتبدو زائدة عن الحاجة، هي جزء مهم من معمار القُبَّة، تصطدم عيون صاعدي الأدراج بها، وفي الوقت ذاته تكشف لهم بالتدريج بهاء القُبَّة.
بين البوائك، ومسجد القُبَّة، مسافة قد تكون كافية، للتأمل، والتفكر، والاكتشاف، طبعًا ليس لضحايا لمعان القُبَّة الصفراء، التي تبدو نتوءًا، إغراءًا لنداء اللون الذهبي، وإنما للذين يرون النداء الذهبي باهتا، وطفوليا، وليس أكثر من هدفٍ فقط لتحقيق المبالغة بقيمة الصرح الأموي في حرم القبلة الأولى المنسوخة، الذي كان صاحبه، آنذاك، في صراع سياسي، مع مُحتل القبلة ذات الديمومة في الحجاز.
البوائك في الأساطير المحلية حول المكان، والتي على الأغلب طُورت بعد الغزو الصليبي، الذي غير الدور الوظيفي لمسجد القُبَّة، وحافظ عليه في الوقت ذاته، هي موازين يوم الحساب، حيث سيجتمع خلق الله، منذ الأزل إلى الأزل ليخوضوا التجربة الكبرى المنتظرة، التي يتوقع حدوثها كل نهاية قرن، أو ألف عام، وتفشل التوقعات، وخلال ذلك وعلى هذا المكان، يطل الله مرتين في اليوم، ويصلي الخضر الأخضر متنقلا بين القدس والحجاز يوميًا، مصليا في القبلتين المنسوخة، وذات الديمومة.
حظيت القُبَّة، باهتمام الفقه الإسلامي الذي طور فرعا له عرف باسم (فضائل بيت المقدس) كان للصخرة نصيب مهم فيه ووضعت الكتب حولها فيما سمى (فضائل صخرة بيت المقدس)، رغم معارضة علماء التيار الديني الإسلامي السني الكلاسيكي لذلك.
الأسلوب البائكي، الذي لفت نظري بشدة خلال إعدادي لكتابي (ظله على الأرض/دار قدمس/دمشق/2005م)، فتنني، وشغلني في السنوات اللاحقة، وشكّل بالنسبة لي معمارا أدبيا، استخدمته جزئيا في مجانين بيت لحم (الشهرزادية)، وبشكل كامل في روايتي الناجزة (وردة أريحا). ولن أكون، بالطبع أسفا، بأنني لن أستخدمه مرة أخرى.
المعمار الفني البائكي، متعدد الاتجاهات، ويطل على جوهرة المراد وسيكتشف الذي تشكل البوائك له، ممرا حتميا للدخول، بأن القُبَّة الذهبية ليست المراد، وإنما هي بمثابة شِباك، إغراء، دعوة لما تخفيه في جوفها، الصخرة الطبيعية التي تتراوح أبعادها بين حوالي 13 و18 متراً، وارتفاعها نحو المترين، وبداخلها مغارة الأرواح، ونفحات أسطورية، طُور حولها، على مدى أجيال ميثولوجيا إسلامية.
أقر المسلمون الأوائل بتاريخ للصخرة قبلهم، فهي صخرة اليهود، التي استخدموها في طقوسهم، والتي ارتبطت لاحقا بمعراج النبي.
 سيتبين المريد، بأنه لا مراد واحد داخل القبة، وأن المراد لا يتأتى بسهولة، وقد لا يتأتي أبدًا، كما سيحدث للقاريء في معمار الرواية البائكي. مسجد القبة، مناخه أنثوي، مسجد للنساء، الإيمان الرجولي، يتجلى في المسجد الأقصى (القبلي). صغيرا، رأيت أمي والنساء يطفن حول الصخرة في رمضان، رجع صدى، لتقليد أموي، بإعادة الاستخدام الوظيفي للمكان، باعتباره القبلة الأولى، ما دامت القبلة ذات الديمومة بأيدي الثائر ابن الزبير.
الصخرة، هي من صخور الجنة، معلقة في الهواء، وإليها المحضر ومنها المنشر، ومياه الأرض كلها تخرج من تحتها ، وعليها أثر أصابع الملائكة، وعلى نهر من أنهار الجنّة، والمياه العذبة والرياح اللواقح من تحتها، وهي عرش الله الأدنى، ومن تحتها بسطت الأرض، تقع وسط الدنيا، وأوسط الأرض كلها، ولها مكانة الحجر الأسود في الكعبة.
ما زال الكثيرون يعتقدون بكل ذلك وأكثر منه، رغم الحملة التي بدأها قديما علماء مسلمون ضد هذه الاعتقادات، وكانت أشدها ما شنه شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم الذي شكك في صحة الأحاديث المنسوبة للنبي حول الصخرة واعتبر أن ما يدور حولها من حكايات والإشارة إلى موضع قدم النبي عليها بأنه كذب وانه "مما عملته أيدي المزورين، الذين يروجون لها ليكثر سواد الزائرين".
سأكتشف، لاحقا، ارتباط الصخرة، كصخرة، بأماكن عبادة (كنيسة الجثمانية مثلا)، أو ارتباط الصخرة بالشكل الثماني (كنيسة الاستراحة المكتشفة ما بين بيت بيت لحم والقدس).
عالم من السحر، والحكي، والأساطير، والطقوس، سأصعد الأدراج من مختلف الجهات لاختبر ما توحيه البوائك، وما تبوح به، وما تكشفه، وما تخفيه من جوانب مختلفة من قُبَّة الصخرة ثمانية الشكل، التي هي الأخرى مزيج متعدد لا يمكن وصفه، من التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، شيء لا يمت بصلة للمتاهات، وإنما بالثنيات، والعَطَفات، والعطيفات. داخل القُبَّة سنجد الأصوات المتعددة، أطفال يتسلقون الصخرة ليطلوا من علٍ، نهر الأمهات الموبخات الأبناء، تعالي المتدينات المتفقهات تجاه سلوك المتدينات الأميات، الحراس الذين يدلون الزوار على ما آثار قدمي النبي، عندما عرج إلى السماء وطارت الصخرة خلفه ولكنه توقفت وبقيت في محلها عندما أمرها النبي بان لا تلحقه.
جوقة أصوات/أراء/أداء حركي، ونفسي، وعقلي، توق للحكي، والانعتاق، والعروج، والتماهي بالصخرة الجامدة. أساطير الأولين، واللاحقين.
هذا هو أدب الكاتب، وميزان الأدب، حين يكون ابن بيئته...!
بالطبع، لا أجد حرجا، بأن أتحدث عن البوائك كمعمار في كتاباتي، ولكنني من الذين يؤمنون ان على الكاتب أن يكف عن الحديث عن عمله الأدبي، بعد نشره، لأنه أخذ فرصته كاملة، وان أي شرح وتفسير أو إضافة أو حتى رد على ناقد، هو أمر زائد، ونوع من الاستحواذ على حيز الآخرين في الحديث. طبعا هذا ليس اعتذارا عن هذه  الشذرات، التي أنشرها، بعد حديث مدهش عن البوائك، جاء من مكان غير متوقع أبدا بالنسبة لي…!  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق