أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الثلاثاء، 26 أبريل 2016

حالنا في رواية "مجانين بيت لحم"/رائد الحواري


لا شك أن الحديث عن المجانين في زمن مجنون مسألة طبيعية، فالكل مجانين، ولا فرق بين العادي والنخبوي، فالكل مشترك في الجنون، إن كان المجنون يعي حالته أو لا، فحتى "عقلاء المجانين" لا يعرفون تشخيص حالتهم، من هنا أمسى الجنون حالة طبيعة، لا يمكن لأحد أن يعيبنا عليها، رغم أننا نتحدث عن المجانين الظاهرين علينا ونتجاهل عن قصد جنوننا نحن "عقلاء المجانين".

الرواية تقترب مما طرحته علوية صبح في رواية "مريم الحكايا" فالرواية تحمل شيئا من اسلوب ألف ليلة وليلة، فيتم النقل من حكاية إلى أخرى وبعين الطريقة المتبعة فيها، لكن أحيانا كان الراوي يغوص أكثر في الحديث عن المجانين بعيث يتجاهل أنه يتحدث من خلال نص روائي، وهذا ما جعله يشير إلى هذا الخروج عن الخط الروائي، بشكل صريح، عندما قال: "ولا أظنني بحاجة إلى إصدار أي بيانات، لأعترف بفقداني الخيط الروائي الذي أحاول الإمساك به منذ بداية هذا النص، سأجرب مرة أخرى، وأخيرة، تجربة في زمن المشمشي" ص191، هذه التنويه لم رغم أنه جاء ضمن النص الروائي، لكن القارئ للرواية يجد الراوي قبل هذه العبارة كن فعلا قد خرج عن الخط الروائي، وهذا التصويب لما وقع به الراوي يشير إلى مقدرة الراوي/الكاتب على إعادة السرد الروائي إلى نصابه، بشكل أنيق وهادئ، ودون أن يشعر المتلقي بوجود فجوة في عملية السرد.
التاريخ
الرواية تذهب بنا إلى التاريخ، فتكون بداية الجنون، "الدهيشة/الدهشة مع بداية حملة إبراهيم باشا على فلسطين، والذي اعطا التسمية للجغرافيا الواقعية بين الخليل وبيت لحم عندما قال: "إيه ده.. دهيشة .. دي هيشة..!" ص13، الراوي يعمل على تفسير كلمة "الدهيشة" من خلال ربطها بالجغرافيا، بالمكان، وهذا حال العديد من التسميات التي تلصق بالأفراد عندما ننسبهم إلى جغرافيا معينة، لكن هذه التسمية ليست لوحدها التي تفسر أسم "الدهيشة" بل هناك رواية أخرى تتعلق "بشخص سكن في أحدى المنازل القديمة على شارع القدس ـ الخليل، واشتهر فلسطينيا وعربيا وعالميا باسم (داهش بك) أو الدكتور داهش، صاحب نظرية الداهشية أو الدعوة الداهشية، وأطلقت عليه أنما لقب "نبي القرن العشرين" ص21، اصرار الكاتب على تفسير اسم "الدهيشة" لم يأتي من فراغ، فالاسم هو لب المسألة، وهو المصدر/الباعث/الخالق لحالة الجنون، التي ستكون محور الحدث في الرواية، فالاسم لوحده يعطي دلالة على الدهشة، فقدان العقل، وهذه الدهشة لم تتوقف عند تسمية أفراد بها وحسب بل تطورت إلى مؤسسات ثقافية، تعنى بالأدب والثقافة، ونشر الكتب، "ومن الكتب التي أصدرتها الدار الدهشية، كتاب من ثلاثة أجزاء يحمل عنوان "ناثر وشاعر" ويضم أكثر من 600قطعة أدبية بقلم "الأديب العملاق الدكتور داهش بك" ص25.
إذن الدهيشة لم تقتصر على تسمية جغرافية معين أو شخص ما، بل تعدتها إلى المؤسسات الثقافية، بمعنى أنها تجاوزت المكان والأشخاص، إلى الثقافة والأدب، فهناك أدب/سلوك (داهشي) أخذ مكانته في المجتمع، وهذا (الأدب/السلوك) تمثل بهذا الشكل، "خلال طقس غسل كنيسة المهد، بعد الاحتفالات، حيث يخرج رهبان الطوائف المختلفة، بالمكانس لتنظيف الكنيسة، ولكن سرعان ما تتحول المكانس أسلحة، ورواق الكنيسة ساحة حرب، فتغطي الدماء وجوه الرهبان، في مكان يعتبروه مسيحيو العالم، الأقدس، ويجله مسلمو العالم.
إنها لوثة الجنون التي أصابت هذه البقعة من العالم، البقعة التي تفخر بأنها حملت رسالة السلام إلى العالم، ولم تستطع صنع سلامها الخاص" ص26، منن هنا يبدأ الجنون، من أقدس مكان، المكان الذي ولد فيه صانع السلام، باعث المحبة، المخلص يسوع، يتم خرق وتكسير دعوته في مكان ولادته، وكأن الراوي من خلال هذا الحدث يردنا أن نتأكد بأن الأفكار شيء والسلوك شيء آخر، مغاير تماما، فهما نقيضين، لم يستطع المكان رغم قدسيته أن يحد من الصراع، ولم يستطع الإنسان، وليس أي إنسان، بل إنسان متعلم، متدين، يحمل مفاهيم المحبة والسلام والخلاص، أن يتجاوز خلافه مع الأخ الآخر، الذي يحمل عين الأفكار، وعين العقيدة، لكنه يتباين معه في الانتماء للطائفة، للقبيلة، وهذا الحالبة تمثل ذروة الجنون الذي نحن فيه، بحيث لا يبقى أدنى شك بجنوننا في هذه الجغرافيا، في هذا المكان، بهذا المجتمع، في هذا الزمان، العصر، فكلنا مجانين، وهذا ليس بتضخيم أو تكبير للمسألة بل هو واقعنا، وهذا ما سيحدثنا عنه الراوي لاحقا.
ولم يقتصر التأثير المصري على تسمية الجغرافيا الفلسطينية وحسب، بل أيضا طال التعاملات النقدية، بحيث جاءت كلمة "مصاري" والتي تعني في النقود والأموال من خلال، "في عام 1836، سك الجنيه المصري، في الوقت الذي خضعت فيه بلاد الشام لحكم الباشا المصري، واستعملت نقوده التي سماها الناس المصاري" ص15، الراوي لم يتوغل كثيرا في التاريخ بل اقتصر على تناول آخر مائتي سنة من تاريخ فلسطين، من هنا يحاول أن يبرز لنا أهم الأحداث المتعلقة بها وبالجنون وجذوره في فلسطين.
ويحدثنا عن زيارة غليوم قيصر المانيا وزوجته فيكتوريا لفلسطين وبلا الشام في أواخر القرن التاسع عشر، "التي بدأت يوم الثلاثاء 25/10/1898 لدى وصول الإمبراطور ميناء حيفا، وانتهت عند مغادرته بيروت الساعة الخامسة من صباح يوم 23/11/1898" ص60، وقد تخلل هذه الزيارة العديد من الأحداث منها قصة أعجاب الامبراطور بحمار ورفض صاحبه أن يعطيه للإمبراطور، وعندما تم تدخل والي الشام في الأمر قال صاحب الحمار: "إن إمبراطورة ألمانيا لم تجد في دمشق ما يعجبها غير الحمار" ص232، فكانت هذه احدى الطرفات التي وقعت خلال الزيارة، والتي تشير إلى نباهة الإنسان السوري.
وهناك موضوع أخر حيوي ما زال يستخدم في إحداث التأثير في المجتمع، هو المسألة الدينية، فقد طرح موضوع ما يسمى "بالعلم النبوي" الذي أثر المجتمع الفلسطيني بحيث أنه: "لم تشرق الشمس إلا وقد خرجت القدس بأسرها لاستقبال العلم النبوي" ص69، طبعا هذا العلم كان يرد به تهيج المجتمع دينيا حتى يشاركوا في الجهاد المقدس الذي كانت تخوضه الدولة العثمانية بالجنود العرب تحديد، الذين أرسلوا ليموتوا في الحروب التركية الأوروبية، ونحن لم نستفد منها أي شيء، بل فقدنا فيها خيرة أبناءنا.
الفساد
لقد أصبح موضوع الفساد يحتل مكانة مرموقة في الراوية الفلسطينية، خاصة بعد وصول السلطة الفلسطينية، التي اتسمت بموجود كم ونوع من الفساد لا يضاهيه أي فساد في العالم، سوى ذاك الذي ما زال يحدث في العراق، وهذا الأمر يشير إلى استفحال ظاهرة الفساد وهيمنتها على الكثير من الأحداث، بحيث أخذت هذا السلوك الشكل الاجتماعي، أي أنه أصبح مقبول من المجتمع، ويتعامل معه كمسألة عادية، ونحن هنا لا نقلل من أهمية الروايات التي تناولته قبل وجود السلطة كما هو الحال في رواية "البكاء على صدر الحبيب" لرشاد أبو شاور، لكن الكم الكبير لعدد الروايات التي نشرت بعد أسلو، جلعت من الفساد الظاهرة الأبرز، فهي الطاعون الذي تفشى في المجتمع الفلسطيني، وقتله أكثر من أي مرض آخر.
يبدأ الراوي بحديثه جذور الفساد في فلسطين فيحدثنا عن "راغب النشاشيبي، مثلما كان رجل العثمانيين، أصبح رجل الإنجليز، ولاحقا رجل الملك عبد الله الأول في الأردن" ص69، بهذه العينة من الأفراد التي تم تكرارها واستنساخها لاحقا في كافة مراحل النضال الوطني الفلسطيني, لعبت وما زالت تعلب دور قذر، في كافة نواحي الحياة، فنجدها اقتصاديا متنفذة، وسياسيا لها وزنها، واجتماعيا تحتل مكانة مرموقة في المجتمع، طبعا نحن لا نحمل السلطة كل هذه الاخطاء، لكنها تتحمل جزءا منها، أما بالنسبة لمجتمعنا، فقد بلع الطعم، ولم يعد هناك مجال لتغير واقع هؤلاء المتنفذين، فالكل يسعى وراء مصالحه، حتى لو كانت نع الشيطان نفسه.
وبما أن الراوية تتحدث عن المجانين، فالراوي لم يهملهم، بل تحدث عن استغلالهم من قبل العاملين في مستشفى بيت لحم، " بعض التمرجية والأطباء أكملوا بناء منازلهم من خلال استعباد المجانين الذين لم يعانوا من عملهم بدون أجر، ولكن أيضا من الإهانات" ص110، استغلال المركز الوظيفي لتحقيق مصالح شخصية، سمة متفشية في الوزارات السلطة، حتى أننا نجد الضابط يقوم بإجبار الجندي بالعمل في مزرعته والقيام بأعمال خارج مدار الوظيفة، وكل هذا نظير اعطاء ذاك الجندي يوم اجازة، أو شيئا من المواد التي استحضرها من المستودع، فيكون الكل قابض وحاصل على نصيبه من الفساد.
أما على صعيد العمل السياسي فحدث ولا حرج، فكافة الأحزاب الفلسطينية في ظل السلطة تحولت إلى ما يشبه القبائل، الكل يبحث عن الكم/ ويعمل بنظرية "شوفيني يمه" فيحدثنا الراوي عن هذه الظاهرة بقوله: " .. وفي النهاية لم يخرج من المكتب إلا بعد تسلم مغلفا مغلقا من الزعيم، يحوي مبلغا ماليا إثر اتفاق الأثنين شفهيا على صفقة الدفع مقابل النشر، فالزعيم يريد أن يظهر للختيار أن حزبه قد نشط، عبر تقديم قصاصات من الصحيفة تحوي نشاطاته" ص122و123، لسنا هنا في مجال تناول عمل الأحزاب لكن من يطلع على الكيفية التي تعاملت بها مع أفرادها في لمناسبات، خاصة أثناء الاحتفال أو التشيع يعلم القذارة التي انزلقت إليها تلك التنظيمات، خاصة عندما أصبح كل من يحمل راية أو علم يحصل على مبلغ مالي، بحيث تحول العمل الوطني إلى عمل مأجور، وليس حبا في التنظيم أو حبا في الوطن، فتم القضاء على أي روح مبادرة أو عمل لوجه الله أو للوطن.
أما على صعيد الوظائف وكيف تم تقسيمها فيحدثنا الراوي عن هذا الأمر: "أغلق ملف الأكاديمي، ولم تنصفه المحاكم الفلسطينية، فترك البلاد ولحق بأشقائه الذين سبقوه في الهجرة، بعدما ظل يقاوم ضغوطهم والإغراءات الكثيرة، حتى وجد نفسه وحيدا ذليلا أمام بلطجة أبناء الوزير الذي كان يحمل الشهادة الابتدائية، وعلى دربه سار أبناءه، فلم يكملوا تعليمهم، واختاروا طريق البلطجة، مستعينين بجنود حرس الحدود الإسرائيلي" ص124، بهذا الشكل يتم طرد/قتل/موت الطاقات الابداعية في فلسطين، فالوظائف محصورة فقط لأصحاب النفوذ والذين غالبا ما يكون بلطجية/انتهازية، يمارسون كل أشكال القذارة لتدمير المواطن والوطن معا.
هناك العديد من مظاهر الفساد الموجودة في الرواية، لكننا لن نستطيع سردها، ونكتفي بهذا المقدار، علما بأن الرواية تقدم لنا العديد من مظاهر الفساد، حتى أنها تحدثت عن فساد الختيار نفسه.
رجال الدين
رجال الدين يعدون من المجتمع، وما يتعلق بالمجتمع يتعلق بهم، فعندما يكون المجتمع فاسد والمتخلف يكونوا هم أيضا على شاكلة مجتمعهم، من هنا يتناولهم الراوي ضمن حالة المجتمع الفلسطيني، فهم لا يقلون فساد عن المجتمع، وما ينطبق على أفراد السلطة والمتنفذين ينطبق عليهم، فعندما يموت "الأسطة" قهرا على حرمانه من لقاء عالته في غزة نجد رجال الدين يعاملون جثه بهذا الشكل، "فخرج من الدنيا إلى الرفيق الأعلى دون أن يصلي عليه في مسجد المخيم الذي عاش ومات فيه، لأن بعض الشيوخ حاسبوه في الدنيا التي سيحاسب كل من دب عليها الحسيب جل وعلا" ص119، طبعا لكنا يعلم دور رجال الدين في تخريب المجتمع وتدمير القيم الأخلاقية وإبقاءه في غياهب الظلام والجهل من خلال استحضار قصص وخرافات تخدم بقاء نفوذهم على العامة، وهم على استعداد أن يحرموا اليوم وغدا يحللوا، وهذا ما شاهدناه وعلمناه منهم، من خلال العديد من المسائل إن كانت سياسية أم اجتماعية.
الاحتلال
من الطبعي أن يتم الحدث عن الاحتلال في وطن محتل، وإلا سيكون الكاتب خارج الواقع، فالاحتلال له الدور الأبرز في معاناة الفلسطيني، فهو من تسبب بالعديد من العاهات لأبطال الرواية، وأيضا قام بقتل العديد من الشخصيات، فمن جرائم الاحتلال.. "وقع أفراد المجموعة في كمين لجنود الاحتلال الذين أعدموا 15 من أعضاء المجموعة بدم بارد، وبقة أو عصري الذي أصيب بجراح شاهدا على جريمة الحرب تلك،... ثم نقل إلى سجن سري، ... ولكن يبدو أن تأثير سنوات العزل في السجن السري عليه كان كبيرا، إذ أفقدته تلك السنوات عقله، ونقل بعدها إلى سجن أخر هو دير المجانين" ص78، بهذا المشهد يعري الراوي المحتل، فهو قاتل، كما أنه سبب مأساتنا وما يحل بنا من أمراض إن كانت جسدية أم نفسية، فهو البرد سبب كل علة. فهذا المحتل لا يفرط في أي وسيلة أو طريق للانتقام من الفلسطيني، ويبقى يعذب ويعاقب الفلسطيني حتى هو مريض وأيضا هو ميت، فهو محتل سادي، بكل معنى الكلمة، "...استخدم العنف والضرب معه منذ اللحظات الأولى للاعتقال، وتعرض لأبشع أشكال التعذيب الجسدي والنفسي، إلى درجة أن معظم أعضاء المجموعة التي ينتمي لها الشهيد ظلوا يعانوا من آثار التعذيب لفترة طويلة، لقد أدى التعذيب المنفلت من عقاله إلى خلال عقلي أصاب الشهيد، كما أن آثار التعذيب رافقته حتى وفاته" ص79، المتتبع لما احدثه الاحتلال في شخصيات الرواية سيجد بأنها في غالبيتها كانت تعاني من أمراض نفسية، إن لم تصاب الجنون ثم الوفاة، وهذا ما يحسب للرواية فهي ربطت بشكل حيوي بين جنون الشخصيات والمحتل، فهو من تسبب العديد منها بالجنون، فالراوي يدين الاحتلال أولا وأخيرا.
" فيحدثنا عن يوسف العلان قائلا: " قبض عليه في الشارع، قرب قبة راحيل، وتعرض لضرب مبرح، جعله مجنونا، وكانت أمه تردد دائما:
ـ ركزوا على رأسه، أرادوه مجنونا" ص115، من خلال هذه المشاهد يكون الراوي قد نجح في تجريم المحتل وأدانته.
ونذكر بأن الرواية من منشورات نوفل، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2013.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق