أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

السبت، 5 سبتمبر 2015

سِفر مَنْ لا أسفار لهم/لينا هويان الحسن

في الصفحة الأخيرة من هذه الرواية يترك كاتبها أسامة العيسة الحكم للقارئ وهو يقول: «لنترك للقارئ والقارئة، الحكم على الرواية، وللنقاد الحيرة في تصنيفها وتقريع المؤلف ان لم تعجبهم».
سواء على مستوى الشكل، أو طرق السرد، أو اللغة، أو بنية المكان والزمان، أو زاويا الرؤية، وتقنيات معالجتها، فإن التجريب هو الخيار الموفق الذي اختاره الروائي الفلسطيني أسامة العيسة، في روايته: «مجانين بيت» الصادرة عن دار نوفل، بيروت.
العيسة، اختار أن يكتب نصّه وهو يتقمصّ شخصية الروائي حيناً، والراوي الكُلّي في أحيان أخرى، لتكون حركة السرد أكثر مرونة وحرية وقدرة على التطور وعلى تجديد لغتها، بحيث يتاح للقارئ الاحتكاك الحي بأجواء المجانين الذين اختارهم العيسة ليكونوا أبطال روايته، فعادة أفراد سلالة المجانين، والمختلفين، يسقطون من التاريخ.
تقوم الرواية على مزاوجة أخّاذة بين تاريخ فلسطين كمقصد للسيّاح، والحجّاج، والرحالة، والمغامرين، والجواسيس، والمستشرقين، ورجال الدين، والجغرافيين. وبين حاضرها المنكوب بالاحتلال الاسرائيلي من جهة والمبتلي بالسلطة الفلسطينية المؤسسة على الفساد.

تبدأ الرواية مع مجانين هم في الواقع أجداد للمجانين الجدد. العيسة يختار زيارة الامبراطور الالماني غليوم لفلسطين وسائر بلاد الشام ليروي لنا أولى حكايا مجانينه التي تبدأ مع داهش بك، في الوقت الذي كان ينشر فيه العثمانيون الشائعات وسط الناس، بأن ألمانيا اعتنقت الإسلام وأنها ستقاسم تركيا كل البلاد التي ستفتحها، وربما الأهم والأعجب أن الامبراطور غليوم سمي محمدا وأنه سيذهب الى الحج لاداء الفريضة في مكة... لكسب تعاطف الفلسطينيين بذريعة الدين.
يروي لنا الكاتب تاريخ مخيم الدهيشة للاجئين حيث وِلِدَ هو، حيث يقال إنه اكتسب اسمه من دهشة ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا بسبب الاحراج المخيفة التي تغطي المكان، وهناك بالذات دير للمجانين منه استلهم الكاتب معظم حكايا روايته.
لأن المجانين كثر، لا أحد يعرف كم منهم خارج الدير، او داخله. فقد غدا أحيانا مهنة أو وسيلة لغاية كأن يكون الجنون مُنقذا من المعتقلات، لكن الجنون لم يمنع المجنون «سلوم» من تنفيذ حكم المجتمع على شقيقته سليمة فجز رقبتها على أثر حملها من عشيقها، رغم أنه أمضى سنوات في سجون الاحتلال، كمناضل يساري؟!
فلاسفة ومجانين
تتوالى حكايات المجانين العقلاء والمثقفين، كالعبد علوي الذي يشبه سارتر ويميز بين الوجودية المؤمنة والوجودية الملحدة، والذي يُسمح له بمغادرة الدير ليعالج بالضرب، حيث يعالج المصابين بلفحات الهواء والممسوسين بالجان والعفاريت، بينما النساء يلجأن لبوح اسرارهن للمجنون، لانه ان افشى تلك الاسرار فهو في النهاية مجنون ويمكن ان يقول اشياء كثيرة ليست صحيحة.
أيضا للمجانين جرائمهم، ففي دير بيت لحم وقعت جرائم قتل، قَتَلَ مجانينُ مجانينَ آخرين وهنالك من كان طبيباً فجنّ واصبح زميلا لمن كان يعالجهم...؟!
والجنون، ذريعة تحب استخدامها السياسة: مثل حكاية جاد ابي عفرة، الصحافي الذي كتب في صحيفته: «البلد» ان مذاق السجائر الذي تستوردها اسرائيل من الولايات المتحدة افضل من مذاق السجائر التي تستوردها السلطة الوطنية، عدا عن انتقادات أخرى كان يكيلها لهم، فاتهمه المدعي العام بالجنون، وأغلق صحيفته، واعتقله رغم ان المجانين يجب ارسالهم الى دير المجانين في الدهيشة، ثم جدد المدعي اعتقاله لانه كتب على باب غرفة السجن المليء بكتابات السجناء، اسم صحيفته واتهم باتلاف الممتلكات العامة.
مما قاله المجنون يوسف علان للمؤلف: «الجنون اسلوب حياة ليس كل المجانين مجانين وليس كل العقلاء عقلاء». ذلك يتواءم مع حقيقة أن التعليم، الثقافة، المفهومية، والجنون ثيمات متوافقة تربطها علاقات شرطية غامضة، تخدم السياسة.
المجنون علائي، خسر دراسة الطب لسبب لا يتعلق به شخصياً، انما عقب اتخاذ منظمة التحرير الفلسطينية، موقفاً معلناً، ضد مبادرة الرئيس انور السادات بزيارة اسرائيل، ولاحقاً بتوقيع كامب ديفيد، جعل السادات يرد بعقاب جماعي شمل كثيرا من الفلسطينيين في مصر. فوجد علائي نفسه مخفورا ومطرودا على أول طائرة تغادر مصر التي احبها، وتركت في نفسه غصّة من دون ان يعرف ماذا فعل هو شخصيا ليُطرد.
عاد شخصاً آخر، لم يكمل دراسته، بل داوم على المقاهي، اكثر من التزامه بدوامه الجامعي، فتحول الى مشروع مؤلف لم يؤلف شيئا، شاعر لم ينظم بيتا، وبرع في السُكر والتنظير ثم نسب لنفسه وضع نظرية عن دور النخب الفلسطينية في استمرار مأساة شعبها، سماها «ثنائية» الجُعّار والافندية. ملخصها ان الطبقة السياسية التي تتكون من افندية المدن واقطاعيي الريف، استمرت في قيادة الشعب الفلسطيني واستغلال ابنائه «الجُعّار» وهم في تعريفه الذين «يجعرون» أي يرفعون الصوت العالي تأييدا لهذا الزعيم او ذاك وزجّهم في أتون النار، من دون أن تقدم طبقة الأفندية أي تضحيات تذكر وكلما أصبح أحد من طبقة «الجعار» لظروف مختلفة، في موقع قيادي يتحول إلى واحد من الأفندية. لاحقا، قام علائي بقتل صديقه الدكتور باسم بطعنة سكين وهو يصفه بأنه زئبقي، وإمبريالي، وبرجوازي صغير. خرج من السجن لأنه مجنون، لكنه اعتكف في منزله حتى زاد وزنه بشكل كبير ومات وسط كآبته وجنونه وسمنته.
ارتباط المجانين بالسياسة أمر مثير للانتباه فالمجانين الذين عرفهم الكاتب في دير المجانين لديهم مثل جميع البشر اهتمامات في الدين والجنس والسياسة. بين المجانين شيوخا يصلون ويؤمون غيرهم في الصلاة، وبعضهم يعلقون المسابح في اعناقهم ويرتدون عمائم وجلابيب. ومسألة الجنس فارتباطها بالسياسة كان واضحا على الاقل بسبب القاموس الجنسي المستخدم من قبل الكثير من المجانين للتعبير عن آرائهم السياسية، وفي وصفهم لبعض السياسيين.
وللمجنونات حصتهن الروائية في هذا النص، مثل المجنونة هدباء قدسية، التي تثبت قصتها أنه في بلادنا ليس أسهل من إصدار بيانات، من قبل العائلات، أو الجهات الرسمية، يمكنها أن تصنف النساء بأنهن مجنونات، أو مفقودات، وقد لايكون الهدف البحث عنهن، بل تسجيل وقائع غيابهن، لأغراض دنيوية، مثل اجراءات طلاق أو حصر إرث.
رغم تداخل الوثيقة التاريخية، مع المعلومة، والحكاية، إلا أن العيسة، ظل مسيطرا على مواد السرد على مدار الرواية، مستغلا كل المهارات الفنية والجمالية المتوفرة، ليقدم لنا نصّاً يدرك كاتبه، أننا نعيش بين بشر لا يقدرون التاريخ ولا المؤرخين، فلعب لعبته الأدبية لنقرأ التاريخ بلبوس الأدب والعكس صحيح.
(كاتبة سورية)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق