أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الاثنين، 15 يونيو 2015

رواية متمردة/أشرف البطران


عدسة: أيمن النوباني

كثيرة هي الفرص التي سمحت فيها لنفسي مازحا أو غاضبا أن أقول لأحدهم " روح عيش في دير المجانين أحسنلك" أو " لازم يودوك على دهيشة يا مجنون"، بهذه العبارات المألوفة بين الناس هنا ابتدأت هذه الراوية. الدهيشة من أولى الأمكنة الفلسطينية التي علقت في ذاكرتي منذ نعومة اظفاري، ليس لسحر المكان أو جمال طبيعته، بقدر ما يتعلق الأمر بهؤلاء المجانين الذين يسكنون ديرها، وتسببوا لها بهذه الشهرة المحلية. الآن وهنا، هؤلاء المجانين أنفسهم يعبرون بالدهيشة إلى خارج الحدود، لا لمزيد من الشهرة فحسب، بل ليعيدوا موضعة الدهيشة كمنتج ثقافي وأدبي فلسطيني على سكة الابداع العربي، ولا نشكك في قدرة جنونهم على الوصول بنا إلى العالمية. أي فكرة مجنونة هذه التي لمعت في ذهنك يا أسامة لتنحاز إلى أولئك المهمشين وتصنع لهم سفرهم الخاص، الذي هو سفرنا وسفر فلسطين أيضاً.

انتظم هذا العمل الأدبي في ثلاثة أسفار تم فيها استعراض سيرة الزمان والمكان الفلسطيني من بوابة هؤلاء المجانين الذين يعيشون فيها ،ومن باب السخرية هذه المرة لا ما باب البكائيات الحزينة، فحكاية دير المجانين بالدهيشة هي ذاتها حكاية فلسطين وطن المجانين. الدير يا سادة هو ذاك الفضاء الرحب الذي توالت عليه النكبات، واعتدي على حَيِزه مرارا وتكرارا تحت وطأة التغيرات السياسية التي كانت تعصف به، بدءاً من الحقبة العثمانية، مروراً بعهد الانتداب البريطاني، وصولا إلى الاحتلال الصهيوني، وليس آخرها اعتداء سلام فياض الذي وضع فيه حجر الاساس لمديرية صحة بيت لحم أمام عنابر المجانين، ليتحول الدير إلى مجرد كانتون معزول عن محيطه وفضائه الحيوي، تماما مثلما هي بيت لحم، والقدس، والخليل، ورام الله، ونابلس، وأريحا.

وأنا أعبر شهرزادية المجانين في سفرهم، مررت بشفيقة، وبهيجة، والعبد علوي، ويوسف علان وأخرون كثر، كل له طابعة الجنوني الذي يميزه عن غيره من المجانين، سأحدثكم هنا عن مريم العسيلينية نصف المجنونة، التي شمرت ثوبها وربطته في حزام خصرها حتى بان ساقيها المشَعرين، وأخذت تدك الأرض دبكا ورقصا احتفاءاً بقدوم أبناء العراق الفاتحين، لكنها كانت أول من عرف أن من يقف على بوابات المخيم هم اليهود، حين أشارت إحدى المجندات الشقراوات بإصبعها الأوسط لتعطي مريم، ونحن من بعدها خازوقا نفذ من رؤوسنا جميعا. سقط ما تبقى من فلسطين، وسقطت أيضا مريم مغشيا عليها بعد أن زبغ عقلها وصارت فيما بعد رمزاً لانكسارات عديدة، لكن هذا لم يمنعها من أن تكون سيدة ناظمة لحلقات اللطم الجماعي التي كانت تعقد في المخيم عقب وفاة جمال عبد الناصر لتصبح بذلك مجنونة كاملة وبشهادة الدير.

الرواية، وتحديدا في سفر "في المشمش" كانت جريئة جداً في نقد الواقع السياسي الفلسطيني وما آلت إليه اتفاقات أوسلو، وبصورة أقرب ما تكون إلى الكوميديا السوداء، إذ وجهت سهام نقد نارية على ألسن المجانين لذعت كل المستوى السياسي الفلسطيني بمن فيهم الختيار، الذي اكتشف العالم مؤخرا أنه حجر عثرة في مسار السلام الزائف. أثار فيً هذا السفر المشمشي تساؤلات عديدة حول المجانين والعقلاء في هذا الوطن، ولشح الاجابات استدعيت روح عُجيل المقدسي بصفته عميد مجانين فلسطين ليقول: نحن الفلسطينيون عقلاء أصابتنا لوثة الدهيشة فأصبحنا عقلاء مجانين، فالجنون عندنا فنون، وسأعطيك أمثلة، أتذكر فارس عودة؟!.. ذاك الطفل الذي وقف أمام الدبابة بحجره ليدافع عن وطنه، وطن المجانين...هذا نموذج من بين عشرات النماذج التي تظهر لك كيف أننا بالجنون، وبالحنون وحده قاومنا عدونا....المجانين يا عزيزي وحدهم من قاوم وجرح وأستشهد وأسر. أما إذا أردت التعرف على العقلاء، فقط اعتلِ تلة الدير وانظر ماذا فعلت عقولهم، لن تحتاج إلى عناء جهد لتكتشف كيف يحاصر قرميد المستوطنات الأحمر وطن العقلاء، الذين بدورهم شكلوا طوقا على وطن المجانين...لم أفهمك يا عُجيل....تعال معي....إلى أين؟...إلى الدير....حين وصلنا كانت جوقة المجانين تردد بشكل هستيري ساخر المقطع الأخير من أهزوجة في المشمش تنديدا بعبثية أوسلو وعورتها التي انكشفت امام الجميع

 سلاح الشرطة ....قنوة وبلطة....إلهم سلطة ................في المشمش

 شروط العودة....مش موجودة...وقعة سوده ................في المشمش

 قدس الأقداس...والأقصى انداس....برجع يا ناس...........في المشمش

 مهد المسيح.....نازل يصيح.....يلغوا التصاريح ............في المشمش

 سلام الشجعان.....سببلي جنان.....يشفي السرطان..........في المشمش

......طرق إلتفافيه.....وأخذوا الميه......يعطوا هوية.......في المشمش

تعال لننضم إلى الجوقة.. تعال يا رجل..لا تنظر إلى الجنون بهذه الطريقة، الجنون بالنهاية امتياز، فلا حرج عليك سماويا كان أم أرضيا...إلى أين تذهب...الحكمة كامنة هنا في أفواه المجانين...إلى أين تسير؟... من سار طار، ومن طار حار.......سار..طار ..حار....الحياة يا صديقي سَطَحار... سَطَحار.

أغلقت 254 صفحة على هذا العالم المجنون، لاعبتهم فيها ولاعبوني

‏‏رواية فلسطينية مجنونة، لم تتمرد على قواعد ومعايير العمل الروائي فحسب، بل تمردت أيضا على الرؤية الكلاسيكية للقضية الفلسطينية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق