أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأحد، 3 مايو 2015

أخوات العيسة/وليد أبو بكر


هنا في قسنطينة، ابدأ من السطر الأخير: قبل فترة قصيرة، فاز كاتب شاب، اسمه أسامة العيسة، بجائزة الشيخ زايد، عن روايته (مجانين بيت لحم)، أهم جائزة عربية، لأنها تمنح من قبل لجنة متخصصة، بعيدة عن الدعاية والتدخل والاستعراض، التي ترافق غيرها.
هذا الكاتب لا يقف وحده في بلادنا الآن. هل أضرب عدد الموجودين/ات في اثنين، في خمسة، في عشرة؟ لن أكون مبالغا إذا ضربت ذلك بعشرين، وربما أكثر وأكثر.
أنا هنا أتحدث عمن يكتبون من أجل الكتابة، لا من أجل أن تأتي لهم كتابتهم بشيء.
أتحدث عن إخوان العيسة وأخواته في الكتابة، وهم قلة بين آلاف العباقرة الذين يكتبون، وأنا أحبهم لأنهم لا يدعون العبقرية، حتى وهم يقولون لجيلنا ومن بعده: يا دولة العواجيز، تقاعدوا، ففي الساحة أصوات مختلفة.
كل صوت أذكر اسمه تاليا، أرجو أن تضربوه في خمسة على الأقل. أنا أقدم نماذج وحسب.
ثم أعود إلى السطر قبل الأخير: قبل بضعة شهور، نشرت دراستان موسعتان متجاورتان في مجلة فصلية، عن الرواية الفلسطينية في جديدها: كانت إحداهما لاسم يحمل أعلى الشهادات، وصاحب الثانية يحمل في الأدب شهادة لا إله إلا الله.
حينما قارنت الدراستين، لم أجد بين عشرات الأسماء التي وردت في كل منهما ما هو مشترك، لكني لم أستغرب، لأن الكتّاب الشباب لدى الأستاذة الدكتورة انتهوا عند: غسان كنفاني، وإميل حبيبي، وجبرا إبراهيم جبرا، فاطمأن خاطري على المستقبل.
حين أجمع السطر الأخير بالسطر الذي سبقه، لا أفاجأ أيضا: نحن في عزلة، والصوت الذي لا يزال خارج بلادنا صوت قديم، نحبّه، لكننا نرى أن غيره موجود، وأن من حق غيره أن يعرف. نحن في عزلة مركبة: عزلة ألا نصل خارج جدراننا، وعزلتنا نحن داخل قضيتنا أيضا، ومن يتسللون عبر حب الناس لها. أنا أعني هنا، بالطبع، ما بين السطور: ليس كل ما يخرج من بلادنا ذهبا. نحن بشر. وعن جيل الشباب ـ البشر بيننا أقول بكل بساطة: البشرى موجودة، وهي وعي باتساع القدرة على الخروج من بين القضبان، أو الجدران، رغم كل عوائق الاحتلال، والمستفيدين من الاحتلال، ومن بينهم كتاب رواية، وغير رواية، ما دام العرب يمنحونهم الحب، معبَرًا إلى فلسطين، فيستأثرون به لأنفسهم.
ولأن فلسطين ولادة، فإن شبابها من كتاب الرواية لا يكتفون بالكتابة، وإنما يخلقون تجاوزا، أقول عنه بمعرفة تامة، وباطمئنان كامل: إنهم يخلقون ظواهر كتابية تمثل الوجه الصحيح والصحي والجميل والمستقبليّ للأدب الفلسطيني، الذي لايتباهى، لأنه يفعل. هل أضرب مثلا بسيطا؟ إنهم لا يخترعون مكانا، ولا يستبدلونه، لأنهم يعيشون المكان في المكان، فلا يكون مجرّد حلم، أو اجترارا لذكرى، كما صوره أدباء الشتات، وبعضهم أحسن التصوير. إنه ملموس، فيه تراب وفيه عرق، وفيه دماء كثيرة، وفيه فوق كل ذلك آلام كثيرة، لا تسمح للصدق الفني بأن يظلّ عاطلا.
هل أضرب مثلا أكثر تحديدا؟ عن ملحمة نابلس، المدينة القصبة، في الانتفاضة، كتبت روايتان، واحدة اسمها ربيع حار لسحر خليفة الكاتبة المعروفة، ابنة نابلس، التي تعرف كل حوش فيها، لكنها لم تشهد هجمة الاحتلال، وأخرى، اسمها لغة الماء، هي التجربة الوحيدة حتى الآن لكاتبة شابة اسمها عفاف خلف، من المدينة نفسها، لكنها عاشت الحصار لحظة لحظة. لا أظن أنني بحاجة لتوضيح أيهما كان أصدق، ليس لأن فن الكتابة عند الشابة كان أقوى، لكنه الفرق في الصدق الفني بين أن تسمع وأن تعايش.
الظاهرة التي ولّدتها صيرورة الانتفاضة صارت موضوعا لروايات شباب شكلوا بعض وقودها، فوجدوا أن من حقهم أن ينقدوها بكل قوة. كتب وليد الشرفا روايته القادم من القيامة عن ذلك. رأت الرواية أن الذين استفادوا من الأحوال هم أولئك الذين لم يشاركوا، أو الذين هربوا، أو الذين كانوا مخبرين عند الاحتلال. من خلال تقنية مركبة في السرد، انتهى باثنين ممن عملوا بصدق إلى الاستشهاد أو الهجرة، أما "العميل"، فاستولى على مناصب كبرى، وعلى زوجة الشهيد. وعندما عاد المهاجر لتنظر عيناه إلى ما صنعت يداه، طورد مثل لص.
إن من سبق الكاتب سنا وتجربة، واستفاد من خير الأحوال التي تلت، لا يحمل شفرة حادة ليشرّح التجربة، ولذلك يلجأ، إن كتب، إلى اجترار ذكريات، ربما كانت تنفع في المنفى ذات زمن.
هل أظلم المنفى الإجباري ؟ سأشير إذن إلى تطور مذهل في تصوير جرحه، لم تعرفه الرواية الفلسطينية بمثل العمق الذي صورته به كاتبة من جيل يتجاوز، اسمها حزامة حبايب، وخصوصا في تجربتها الروائية الثانية، قبل أن تنام الملكة، التي تتحدث عن رحلة التهجير من الكويت، الأقسى بعد النكبة. السبب الخفي، كما ترى، هو أنهم يشكلون قوة سياسية واقتصادية فاعلة (فيها ولدت الثورة الفلسطينية الحديثة في ستينيات القرن الماضي)، ربما كان تحول دون الانهيار الذي بدأ مباشرة بعد ذلك. الكاتبة، بفنية عالية، ولغة تحفز كل المشاعر، تابعت رحلة امرأة فلسطينية شابة، تهرب من الموت المحقق بابنتها الرضيعة، إلى أخطار تترصدها في الطريق البري الذي يمتد لأكثر من ألفي كيلومتر، لتكون محصلة الرعب، في نهايته، أنها بالت على نفسها. لن أقول في الرواية أكثر مما قاله د. صبري حافظ، الذي كتب عنها صفحات تشكل كتابا، ووصفها بأنها فتح لجيل جديد في الرواية الفلسطينية.
ليس هذا هو الفتح الوحيد: أليس ما كتبه أسامة العيسة اغترافا من بئر الحداثة في الكتابة؟ لا أتحدث الآن عن المجانين، وإنما عن تجربته الأولى في الرواية، من خلال المسكوبية، التي تحدثت عنها في ندوة في موسكو فتذكّر الروس شيئا من تاريخهم في فلسطين، لأن الرواية مزج بين تجربة شخصية في المكان ــ السجن الآن، وبحث في تاريخ المكان، الذي بدا أقرب إلى مركز ثقافي، وحولته الاحتلالات إلى سجن. أليست الرواية القائمة على البحث من أحدث أساليب الكتابة في العالم؟
هذه الحداثة، كظاهرة، موجودة عند معظم إخوان العيسة الذين أعنيهم، وهي مثلا قائمة في روايات ثلاث لأكرم مسلّم، الذي يختصر الوطن المحاصر داخل موقف واحد لسيارة، في موقف عام، في روايته سيرة العقرب الذي يتصبب عرقا. أما حين يتسع المكان، وتبرز الحداثة في الكتابة، فسوف نجد اسم أماني الجنيدي واضحا في روايتيها: حين كتبت عن القدس في الرواية الفلسطينية المعاصرة، وجدت - بين من كتبوا - تشابها في النظرة، وفي الصورة، أما قلادة فينوس، فغاصت في عمق المدينة، وحللت ناسها، وتعاملت معها كمكان عاديّ، فيه مجتمع بكل تناقضاته، لكنه مرتبط بأسطورة، حولتها إلى قلادة مخترَعة، تقاوم دموع إبليس.
وهو ما خطت فيه من جديد، في مزج الحكاية بالأسطورة والتراث الشعبي، في روايتها الأخيرة بيت النملة، الكائن الدؤوب الذي لا يتخلى عن بيته، ولا يعدم الوسائل في العودة إليه، مهما طال الزمن.
أرجو أن تكونوا لاحظتم أن عدد الكاتبات الذي ورد في هذا الاختصار، أكثر من عدد الكتاب.
هذه هي الظاهرة الأخيرة التي ترافق كتابة الجيل الجديد في بلادنا. عدد النساء أكثر من عدد الرجال، وكتابتهن - نسبيا - أفضل، وأكثر جدية وأقلّ استعراضا.
الرجال عندنا، كثير منهم يستعرض ذاته، والنساء يفعل بعضهن، ولكن بنسبة أقل. أعيد القول إنني أتحدث عن الذين يكتبون من أجل الكتابة، وما تقوله الكتابة، لا من أجل أن يرضوا من يوجّهون الدعوات، ولا من يسهلون الجوائز.
أنا أتحدث عن الكتاب، لا العباقرة، لأنني بكل بساطة، لست واحدا منهم، ولا أحسن التعامل معهم.
http://www.al-ayyam.ps/ar_page.php?id=f2da76dy254650221Yf2da76d

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق