أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الثلاثاء، 7 أبريل 2015

حين تعيدُ الروايةُ تعريفَ ذاتِها/ثائر ديب


يصعب الكلام، في شأن هذه الرواية/العمل – مجانين بيت لحم، الصادرة في طبعتها الأولى عام 2013 لدى نوفل، بيروت، في 254 صفحة من القطع المتوسط- على حبكة حكائية متسلسلة ومتصاعدة، كما في الرواية التقليدية، فهي مبنية أصلاً على غير أساس. بل إنَّ الكلام على موضوعها ذاته لا يكاد يكون ذا قيمة فعلية خارج الكلام على بنيتها وأسلوبها وتقنياتها. ولذلك، فإن التمييز الوارد أدناه بين بناء الرواية، من جهة أولى، وتقنياتها ودلالاتها من جهة ثانية، وقيمتها من جهة ثالثة، ليس سوى تمييز نظري بقصد تيسير الكتابة والفهم.

البناء

 تقع هذه الرواية/العمل في ثلاثة أسفار (سفر تكوين، سفر من لا أسفار لهم، سفر مشمشي)، تسبقها ثلاث عتبات تمهيدية بالغة القصر: احترازٌ يشير إلى أن في هذه الرواية الشهرزادية مثل ما في الروايات الأخرى: قليل من الحقائق وكثير من الخيال وثرثرة... تماماً مثل الحياة؛ وتمهيد بعنوان «دهيشة المجانين»، بأقل من صفحتين يوضح فيه المؤلف أنه تقمّص شخصية روائي حيناً، وشخصية الراوي الكليّ المعرفة في أحيان أخرى، وتوارى خلف شخصيات أخرى. وأنَّ مطابقة القارئ بين الراوي والمؤلِّف لن تسبّب له أي حساسية؛ واقتباس تمهيدي من كتاب «عقلاء المجانين» لحسن بن محمد حبيب النيسابوري: «من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار». وصاحب هذا القول هو عجيل المقدسي الذي سيحضر في الرواية كثيراً بوصفه عميد مجانين فلسطين الذي لا يكفّ السارد عن مخاطبته والتوجّه إليه بالكلام والسرد.

في السفر الأول، سفر التكوين الذي تندرج تحته عشرة عناوين أتت على هيئة أسئلة، ثمّة تناولٌ لتاريخ قيام المكان، بيت لحم والدهيشة، في علاقته بالجنون. وبتعبير آخر، ثمّة تناولٌ لقيام جنون المكان منذ حملة ابراهيم باشا ابن والي مصر محمد علي، مروراً بالدكتور داهش الذي ولد في بيت لحم وجاء إلى لبنان وما كتبه عنه فلسطينيان شهيران هما جبرا ابراهيم جبرا وهشام شرابي، وبيت الأيتام الذي بناه الألمان، وقصر سليمان الجاسر الوجيه البارز أيام العثمانيين، ذلك القصر الذي يُؤخذ كمؤشِّر على التغييرات الاقتصادية والاجتماعية والدينية والسياسية التي مرّ بها الشعب الفلسطيني خلال أكثر من قرن، وانتهى إلى تحويله من طرف السلطة الفلسطينية إلى فندق الانتركونتيننتال، ثم عام 1948، وعام 1967..الخ، كلّ ذلك كتوطئة للدخول في عالم المجانين، في السفر الثاني، كما يخبر الساردُ القارئَ الذي تحمّل عناء القراءة إلى هذا الحدّ.

يقع السفر الثاني، «سفر من لا أسفار لهم»، في ثمانية عشر عنواناً، يحمل كلّ منها اسم مجنون معيّن أو صفته باستثناء عنوانين اثنين يشيران إلى مجموعات من المجانين، «مجانين وعبيد»، و»مجنونات العائلة». وهنا نجد أنفسنا إزاء ضروب شتّى من الجنون الواحد ذاته: جنونٌ بسبب مقاومة الاحتلال والاعتقال والتعذيب؛ تكرارُ ذلك في بلد عربي تجاه ناشط سياسي معارض عُذّب وسُجن في مشفى المجانين؛ مجانين بسبب ذكائهم؛ أطباء جُنّوا وهم يعالجون المجانين؛ جنون شعري لزوجةِ شخصيةٍ عامة تغازل شابّاً هو السارد؛ جنونٌ قادم من أميركا وروسيا؛ جنون النساء بسبب الزواج ممن لا يردنه أو بسبب الحرمان أو الضرب أو الفارق في سنّ الزواج أو اعتقال الزوج وتنغيص أهله للزوجة.

أما السفر الثالث، «سفر مشمشي»، فتندرج تحته تسعة عناوين، ويحكي عن مجانين فلسطينيين وغير فلسطينيين لحقتهم لوثة المكان وجُنّوا بعد أوسلو. وهنا تأتي بجرأة، أسماء الختيار (ياسر عرفات) وسلام، كما يأتي الكشف عما جرى في انتفاضة الأقصى وتجاوزاتها، وفضح الإرهاب الصهيوني وإغراقه بيت لحم، مدينة المسيح، بالدم والنار والبارود، وعودة روسيا بوتين إلى بيت لحم لإعادة أمجاد روسيا القيصرية في فلسطين.

تقنيات ودلالات

 يتّضح، بدءاً من عنوان الرواية، أنَّ هذه الأخيرة هي رواية مكان وشخصيات. المكان هو بيت لحم ومخيم الدهيشة، والشخصيات هم مجانين مشفى الأمراض العقلية أساساً إنما من دون الاقتصار عليهم، إذ تمتد لوثة الجنون في الزمان والمكان حتى تكاد تطاول الجميع ويغدو هو القاعدة والعقل الاستثناء. وبذلك تغدو بيت لحم وطن الجنون المُصَغّر. وثمّة مؤلّف ضمني وسارد يخبرنا عن علاقته بهذا المكان وبشره، وغالباً ما يُفصح عن علاقته بشخوصه، بل ويوضح طريقته في الكتابة وآراءه النقدية في السرد والقراءة وسواهما، إلى درجة أننا نحسّ بحضورنا ومشاركتنا هذه الرواية وهي تنكتب، من دون أي وجل أو خشية يبديهما الكاتب  جرّاء كشف لعبته الفنية أمامنا نحن القرّاء.

هكذا، من خلال تتبّع ثيمة الجنون، ومسلّحاً بتخييل الروائي وعدّة الباحث المدقّق، يعيد أسامة العيسة كتابة تاريخ بيت لحم ومخيم الدهيشة وعلاقتهما بالمنطقة وأحداثها ككلّ. لكن إعادة الكتابة هذه تجري بحيث يدور كلّ هذا التاريخ الرسمي والكبير حول محور تاريخ مهمَّش ومخبوء، تاريخ من لا تاريخ لهم، تاريخ الجنون الذي يتكفل بتسليط ضوء جديد على كلّ ذلك. فالرواية تقوم بمعنى ما، على إقامة تقابل واصطكاك بين العقل والجنون، والعقلاء والمجانين، والواقع والتخييل، والكذب والصدق، والغدر والإخلاص، وتنحاز من دون أن تفقد موضوعية الأدب، إلى براءة وطن المجانين إزاء وطن العقلاء.

وفي شأن الجهد البحثي المبذول في الرواية، إلى جانب التخييل فيها، من اللافت اطّلاع الكاتب على عشرات، إن لم يكن مئات المراجع والمصادر التاريخية والأدبية والسياسية والفلسفية والدينية، ليأخذ منها ما يفيد مشروعه الروائي، شأنها شأن مئات الحكايا الشعبية والروايات الشفوية عن تاريخ نكبات الفلسطينيين المتلاحقة ومعاناة لاجئيها. ومن الواضح أن المؤلّف أفاد من عمله كصحافي وناشط، فضلاً عن إفادته من عيشه في الدهيشة المحاذية لبيت لحم ومشفى الأمراض العقلية.

أَعمَلَ العيسة في هذه المواد التخييلية والبحثية الوافرة وحكاياتها الكثيرة التي يربط بينها الجنون أسلوبَ السخرية والكوميديا السوداء؛ سخرية الجنون من المكان والبشر والحروب ومفاوضات السلام والساسة والصحافة والمثقفين والأطباء والمتدينين والأحزاب والدول والمال وحتى من السارد الذي يكاد يكون الكاتب نفسه. وكان لهذه السخرية التي أجاد الكاتب استخدامها أن تعطي النصّ حيوية كبيرة إزاء ما فيه من جهد بحثي وتوثيقي كبير.

وفي الرواية سرد فني متقن ومشوّق، ولغة سلسة متينة ومتماسكة، إلى جانب انسيابيتها الشبيهة بلغة الحكايات على الرغم من كونها لغة روائية، وعلى الرغم من التشابك غير التقليدي الذي يجمع بين الماضي والحاضر، وينتقل من مكان إلى آخر، ومن زمان إلى زمان، ومن احتلال إلى احتلال، منذ الرومان وصولاً إلى الاحتلال الاسرائيلي الذي لا يزال جاثماً على الرغم من قيام السلطة الفلسطينية.

يكاد يكون واضحاً أنَّ ما أراده أسامة العيسة من روايته هو تقديم المكان الفلسطيني الذي يتآكل بمرور الزمن في ضوء الجنون ومن زاوية نظره، أي بوعي مغاير صارم يشير جنونه إلى حالة الاشتباك والاختلاط التي تعتري كلّ شيء في هذا الوطن المصغّر. لنلاحظ مثلاً، وهذا واحد من أبسط الأمثلة، كيف بنى الروس مركزهم الثقافي ومدرستهم قبالة المدرسة اللوثرية الألمانية وكيف تظهر المستوطنات الاسرائيلية بقرميدها الأحمر في المشهد من عدة جهات!!! والحال، إن إبراز المكان هو من جديد هذه الرواية، فقد اعتاد الأدب الفلسطيني بتأثير واقع الاحتلال والتشرد، أن يتحدث عن أماكن لم يزرها الكاتب أو الرواة. وبالمقابل، فقد أسهم المكان (بيت لحم، ومستشفى الأمراض العقلية، والدهيشة، ودير المجانين) في تعزيز ما ينطوي عليه نص العيسة من رسالة فكرية وفي توسيع دلالته بحيث غدا تعبيراً رمزياً عن حالة مجتمعية أشمل هي المجتمع الفلسطيني الراهن تحت الاحتلال، وربما أبعد منه بكثير.

في القيمة

 لعلَّ ما قامت به رواية/عمل أسامة العيسة هذه من تنقّل بين أكثر من أسلوب سردي، وجمع بين الحكاية والقصة والبحث الموثّق، ومجاورة بين شخصياتها المتخيّلة وأخرى عاشت في قرون ماضية وثالثة تعيش الآن... أن يكون أسلوباً جديداً غير مسبوق في الرواية الفلسطينية على الأقل. ويمكن القول، على هذا الأساس، إنه يساهم في دفع الرواية الفلسطينية صوب آفاق جديدة. ليست هذه الرواية جديدة في موضوعها وفي تعاملها مع المكان فحسب، بل هي جديدة أيضاً في اقتراحها شكلاً يناسب هذا المضمون من دون أن تبتر الصلة بتراثها السردي قديمه وحديثه، الأمر الذي يتجلى واضحاً في امتداد الآصرة مع متواليات ألف ليلة وليلة الحكائية وارتباطها جميعاً معاً، ومع استطراد الجاحظ، وسخرية إميل حبيبي وتساؤلاته.

وتكاد الجدّة في هذه الرواية تبلغ حدّ التساؤل عن هويتها الروائية ذاتها: إن كانت رواية أم بحثاً تاريخياً أم نقداً سياسياً واجتماعياً للعالم القائم محلياً ودولياً، أم أنها ذلك كله في إطار روائي يحكي المكان والإنسان في فلسطين؟ والحقّ، إنّ مثل هذه الأعمال بجديدها هي التي تعيد تعريف الرواية ذاتها في جدل بين ثبات الهوية وتجدّدها كلما عَبَرَ عملٌ إبداعي حقيقي، وهي التي تقف وراء ضرورة البحث المتأني في أشكال الرواية الحديثة، وبقائها رواية على الرغم من كسرها القواعد المألوفة للكتابة الروائية والمجيء بالجديد.

على الرغم من هنات صغيرة جداً تكاد لا تستحق أن تُذكر، جمع أسامة العيسة بين الإبداع والثقافة والخبرة والجسارة غير الهيّابة ليقدّم عملاً لا بدّ أنه سيجد مكانه الواضح المتميّز في مسيرة الرواية الفلسطينية والعربية.

**

المقال كاملا:

الصورة: تفصيل من قصر اوغستا فكتوريا-جبل الزيتون/القدس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق