أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الاثنين، 10 نوفمبر 2014

أبو ثور حبيس عرينه..!!








إلى يمين شارع القدس-بيت لحم-الخليل، في الطريق إلى القدس، تقع تلة مشرفة على أكثر الأماكن لفتا للأنظار في القدس المسورة، إضافة إلى مشاهد مختلفة للمدينة المقدسة، وصحراء البحر الميت، وأحياء في القدس الغربية.

ترتبط التلة التي ترتفع 777 مترا فوق مستوى سطح البحر، باسم واحد من قادة صلاح الدين الايوبي عندما فتح القدس (1187م)، اسمه شهاب الدين أبو العباس أحمد ابن جمال الدين أبو عبد الله بن عبد الجبار، المعروف بالقدسي المشهور بأبي ثور.

واللقب الأخير ارتبط بأسطورته التي تحدث عنها الرحالة والمؤرخون، كتب الحنبلي قبل 500 عاما عنه: "كان من عبد الله الصالحين، سبب تكنيته بأبي ثور: انه حضر فتح بيت المقدس، وكان يركب ثورا ويقاتل عليه الغزاة فسمي بذلك".

سكن أبو ثور على قمة التلة، وحسب الحنبلي: "وكان إذا قصد ابتياع شيء من المأكول، كتب ورقة بما يريد ووضعها في رقبة ثوره وسيره، فيحضر الثور إلى القدس إلى ان يأتي إلى حانوت رجل بالقدس كان يتقاضى حوائج الشيخ، ويحمله للثور، فيرجع الثور إلى الشيخ بمكانه، وهذا من جملة كراماته رضي الله عنه".

من مرقص إلى أبي ثور

التلة هي امتداد لجبل المكبر، الذي عرف في المخيلة المسيحية، باسم جبل لمؤامرة، أو جبل المشورة الفاسدة، فحسب الارث المسيحي، فانه المكان الذي اجتمع عليه الكهنة مع اليهود، للتآمر على صلب السيد المسيح. وانه المكان المفترض الذي كانت فيه (السنهدريم)، وهي الدار التي اجتمع فيها يهوذا الإسخريوطي مع الكهنة والقادة العسكريين، واتفق معهم على تسليم السيد المسيح.

يعلمنا الحنبلي، بان القرية على التلة انشأها الرومان، وعرفت قديما باسم دير مارقوص، ويوجد الان في قمتها، ديرا مكرسا للقديس مرقص، الذي كان شعاره الثور، وكشفت حفريات اثرية في مكان الدير الحالي، عن  كنيسة بيزنطية، ومقابر تعود لذلك العهد.

وتم العثور على بازليك لكنيسة، محرابها إلى الشرق، وهو ما ميز الكنائس البيزنطية، وتحت الممر الشمالي للكنيسة، تم الكشف عن سرداب محفور في الصخر، قد يكون استخدم للدفن، أو انه كان بمثابة كنيسة سرية، ربما سبقت العهد البيزنطي.

نعرف من الحنبلي، بان القرية، عُرفت في العصر المملوكي الذي عاش فيه، بدير أبو ثور: "نسبة للشيخ أحمد، المشهور بأبي ثور، وكان رجلا صالحا، وقد وقف الدير المذكور عليه وعلى ذريته الملك العزيز أبو الفتح عثمان بن الملك صلاح الدين 594 هـ (1997م)، ولما توفي الشيخ أبو ثور، دفن بها، وقبره موصوف، يزار ويتبرك به، وله ذرية معروفون، وبعضهم مقيم بالقرية المذكورة".

الشيخ عبد الغني النابلسي زار مقام أبو ثور عام 1689، وكتب وصفا لمنزل صالح افندي العسلي، الذي اكد الراحل الدكتور اسحق الحسيني انه كان يقع على التلة. النابلسي اورد ابياتا شعرية يتغنى فيها بنافورة منزل العسلي المنيف، وحسن الضيافة.

تبجيل المكان وارتباطه بأبي ثور، استمر إلى مرحلة لاحقة. كتب المصطفى البكري الدمشقي عام 1740م، بان قبر أبو ثور ظاهر ويزار، في المكان: "وله ذرية وهم مقيمون هناك".

وفي العصر الحديث، أسرت حكاية أبو ثور الكاتب الاسرائيلي شموئيل عجنون (نوبل 1966) الذي كان يسكن في حي تلبيوت المقابل، وكتب قصة عنه.

فلاحون وأعيان وانجليز

انتقلت الأرض، في وقت ما، من وقف أحمد أبو ثور إلى ملكية بطريركية الروم الأرثوذكس عند قمة التلة، حيث يقع قبر أبو ثور قبالة الدير الأرثوذكسي.

وعلى مقربة من مقام أبو ثور، سكن العلماء من ارستقراطية القدس الدينية، وكبار التجار، وامتد البناء إلى المنحدرات. وخلال القرن التاسع عشر، زحفت إلى التلة عائلات من سلوان وجبل المكبر، ومن عائلات القدس المشهورة التي غادرت القدس المسورة، أفراد من عائلات العوري، والدجاني وبركات، وقطنه ايضا أئمة ومدرسون وتجار وموظفون حكوميون، ونما هذا الحي لاحقا في اتجاهين: البيوت الصغيرة في منطقة القرية التي واصل سكانها الزراعة ورعي الماشية، والمنازل الأكبر في الاجزاء العليا التي كانت شوارعها معبدة وقطع الارض فيها كبيرة. وأخذ الاستيطان فيها طابعا طبقيا، ان جاز التعبير، فعلى قمة الجبل ومنحدراته الغربية، شُيدت المنازل الفخمة، بينما على المنحدرات الشرقية، حمل الفلاحون تراثهم المعماري العملي والمتواضع الذي يتناسب مع زراعة الحقول في الجبل.

وأصبح دير أبو ثور، واحدا من الاحياء أو القري القليلة في القدس، التي يقطنها هذا التنوع الطبقي من اعيان، وتجار، وفلاحين، وبدو من عرب السواحرة. منعطف مهم في تاريخ التلة، حدث في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ففي عام 1887م، بدأت شركة بيت يوسف، لجوزيف نافون بك، وشريكه المصرفي يوهانس فروتيغر رئيس البنك العثماني، بمشروع لبناء حي سكني على التلة، ليكون في متناول الناس خاصة اليهود الذي لا يستطيعون امتلاك منازل في الأحياء الاكثر حداثة خارج الأسوار كشارع يافا مثلا، وكان التخطيط لبناء 50 منزلا، إلا انه لم ينبى الا نصف هذا العدد، لان عددا من الذين ابدوا رغبة في الشراء انسحبوا من المشروع، لبعد الحي، بمقاييس ذلك الوقت، عن مركز المدينة، وبيع جزء من المشروع لعرب أغلبهم من المسيحيين، وبعد احداث 1929 (ثورة البراق)، هجر اليهود، الحي، ليصبح عربيا بالكامل. وليواصل التطور في القمة والمنحدرات الغربية حتى شارع القدس-الخليل، حيث شُيدت الفلل والعمارات التي صممها مهندسون بأسلوب هو مزيج من الفنون الشرقية والغربية.

في عشرينات القرن العشرين، درس أولاد الحي، في بلدة القدس القديمة، أمّا البنات فدرسن في الكُتاب الذي وجد في مقام أبو ثور.

وفي ثلاثينات القرن الماضي، وكما يذكر شمعون لندمان، شهد الحي حركة بناء نشطة من قبل عائلات القدس المعروفة ومن كبار الضبط البريطانيين مثل شيلي انجلر رئيس الغرفة التجارية.

الحي المنكوب

في عام 1948، أصبح حي الثوري، الذي بدأ يعرف بهذا الاسم، لسهولته أكثر من دير أبو ثور، في قلب المعارك العربية-اليهودية. في شهر أيار من ذلك العام، احتلت العصابات الصهيونية الجزء الغربي من الحي، وتهجير سكانه العرب الذين يقطنون في قمة التلة، ومنحدراته الغربية إلى القسم الاردني في الشرق، وفي كانون الثاني من نفس العام، كان قد هُجر جميع الاغنياء الفلسطينيين من الاحياء الراقية غرب المدينة، ومن بينها الثوري. وتم الاتفاق على خطوط الهدنة وسط الحي في اتفاقيات الهدنة التي وقعت في جزرية رودس عام 1949.

وكان لدى دولة الاحتلال الناشئة، خطة لتسكين اليهود في الاحياء العربية المحتلة، والتي وصفها الباحث الاسرائيلي ارنون غولان، بانها كانت ضمن: "استراتيجية سياسية".

وحسب الباحثة روشيل ديفيس: "تواصلت أسرلة القدس الغربية في أثناء مفاوضات الهدنة، وأمر موسى ديان بإسكان يهود في عدة أحياء من بينها الثوري وكان القصد استباق أي ضغط على إسرائيل من جانب لجنة الهدنة التابعة للأمم المتحدة لدفعها عن التخلي عن طريق القدس-بيت لحم".

أمّا الباحث ناثان كريستال، فيقول بان حي الثوري لم يكن مرغوبا فيه من قبل اليهود، بسبب متاخمته لخط الهدنة: "موظفو وزارة التموين وتوزيع الحصص جرى اسكانهم في حي الثوري المتاخم لخط الهدنة، وكانت البيوت هناك في حالة مزرية بسبب القتال العنيف الذي دار في الحي، كما كان هناك خطر نيران القناصة، ومع ذلك اتخذ قرار بإسكان الموظفين في الثوري لان هدف إسرائيل كان توطين اليهود في جميع مناطق القدس الواقعة تحت سيطرتها. وطلب كثيرون من الموظفين ان يعاد اسكانهم في القطمون، حيث كانت البيوت الواسعة في حالة أفضل. وفي النهاية تجمع الموظفون الكبار في السكن في القطمون والموظفون العاديون في الثوري".

ولاحقا، سيشعر أحفاد من استولوا على المنازل العربية بالفخر بهذه المنازل بجدرانها السميكة، ونوافذها المقوسة، وما يزال بعضها يحمل أسماء اصحابها الاصليين، منقوشة على بواباتها الحجرية الرائعة.

في تموز 1958 أطلقت دولة الاحتلال على الجانب الذي تسيطر عليه من الحي اسم (جفعات حنانيا)، اية تلة حنانيا، على اسم ما تصفه دولة الاحتلال برئيس الكهنة في عهد الهيكل الثاني. الذي قدرت لجنة التسميات الاحتلالية بان بيته وجد في زمن ما كان أعلى التلة.

من حزيران إلى اعتقال أبي ثور

في حرب حزيران 1967، وقعت معارك شديدة في حي الثوري، جيش الاحتلال كان يهدف لاحتلال الحي لإحكام الطوق على البلدة القديمة، ولم يكن نجاح جيش الاحتلال بالسيطرة على الحي، ان يتم بدون ضحايا، ففي ليلة 6 حزيران، سقط 16 جنديا اسرائيليا من بينهم قائد الكتيبة الغازية. تم بناء نصب لهم ضم ايضا اسماء القتلى من جيش الاحتلال الذين سقطوا خلال احداث وقعت خلال الهدنة الطويلة التي دامت 19 عاما.

بعد الاحتلال، ورغم "توحيد" الحي من جديد، إلا ان تطوير البنى التحتية استهدف بالأساس حي جفعات حنانيا، وهو اسم لا يستعمل كثيرا الان، وبدلا منهم يستخدم اسم (أبو طور)، و(الثوري) اسما للقسم الشرقي من الحي الذي يقطنه الفلسطينيون.

ويمكن الان ملاحظة التفاوت الكبير بين واقع الفلسطينيين، والمستوطنين اليهود، من حيث البناء والخدمات، مقارنة مع التطور السريع لصالح اليهود، حيث الشقق الجميلة، وأسقف القرميد الحمراء، والحدائق الخلفية، والحدائق الواسعة العامة التي تشبه الغابات، بينما تبدو قرية (الثوري) فقيرة تفتقد للكثير من الخدمات.

الانظمة التعليمية، والرعاية، والمواصلات، والترفيه، والحياة التجارية، منفصلة بين العرب واليهود، رغم التباهي الرسمي الإسرائيلي بالحي، باعتباره من أحياء القدس القليلة المختلطة.

خلال الانتفاضة الاولى 1987، اشتعل حي الثوري، مثلما حدث في كل الضفة الغربية وقطاع غزة، وشهد جميع أشكال تلك الانتفاضة كضرب الحجارة. وعمدت قوات الاحتلال إلى قمع المواطنين، وتعيين حراسة على المنازل التي يسكنها اليهود.

 بعد اتفاقات أوسلو في عام 1994، هدأت الامور، ولكن هذا لم يمنع، وقوع حوادث متفرقة، على مدى سنوات، لتذكير الإسرائيليين الذي يقطنون المنازل الافخم في الحي، بان لها اصحاب، وذلك عبر القاء الحجارة، وقنابل المولوتوف عليها.

ويبدو ان الاطماع الإسرائيلية، والخطط التهويدية، لن تتوقف عند حد، في عام 2001، اعلنت منظمة عطيريت كوهانيم الاستيطانية، حصولها على مبنى من ثلاثة طوابق في فلب القسم الذي يسكنه الفلسطينيون من الحي، تسرب من عائلة ارمنية تسكن الان خارج الوطن، واستخدم سابقا من قبل القنصلية الفرنسية بالقدس. وكما يحدث في مثل هذه الحالات، وصل حراس امن لحراسة المبنى، ولاحقا عائلات للاستيطان فيه.

لوّ جاء اليوم، الرحالة الذي جابوا فلسطين في القرون الماضية، وافتخروا بزيارة مقام أبو ثور، وأحبوا زيارته من جديد، لما عثروا عليه بسهولة.

المقام الذي كان علامة ودليلا للمسافرين، يختفي بين المنازل والفلل، وهو الان، معتقل، يقع داخل سور لمنزل يقطنه مستوطن يهودي، ولا يسمح لأحد بالدخول إليه، وواقع المقام، يشير إلى واقع الحي المرّ الذي يئن من وطأة احتلال قاس طويل، وأيضا دلالة رمزية على ما آلت اليه بطولة صاحبه ومقارعته للصليبيين، واسباغ اساطير شعبية عليه.



 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق