أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأربعاء، 8 أكتوبر 2014

بقعة القدس: جِنان وحجارة تبكي أصحابها..!!‏‏









بالقرب من محطة سكة حديد القدس-يافا العثمانية، تتناثر منازل حي البقعة، التي تظهر هويتها العربية بأسطع الصور، رغم عمليات التهويد المستمرة للحي، منذ عقود.

يقع حي البقعة، جنوب بلدة القدس القديمة بمحاذاة طريق بيت لحم، ويمتاز ببساتينه وكرومه.

أرض الورود

 يخبرنا الرحالة اوليا جلبي عام 1670م، بان الأراضي بين باب الخليل، والبقعة، كانت خالية من المنازل، ومليئة بالكروم والبساتين، وما من أحد من سكان القدس، إلا ويعيش في كرم من هذه الكروم شهرين، أو ثلاثة شهور في السنة.

تتحدث بعض المصادر، عن قصر لمفتي الشافعية بالقدس الشيخ محمد الخليلي، في البقعة، شيّد في أواخر القرن السابع عشر، وهو بمثابة بيت صيفي.

حسب الباحث طاهر النمري: "ظهر اسم البقعة في الخرائط ووثائق التسجيل العائدة لغوردون باشا الذي أشرف سنة 1864م، على توثيق أسماء الاماكن التاريخية في فلسطين. قبل ذلك، كان اسم البقعة يستعمل للإشارة إلى هذه المساحة نفسها من الأرض في سجلات الوقف الاسلامي".

عُرفت البقعة أيضا باسم وادي الورود، لوفرة الورود في الحدائق التي كان يصنع منها ماء الورد الخاص بالكنائس، وكذلك لسد حاجة السكان.

يطلق التوراتيون، على البقعة اسم (عيمق رفائيم)، في احالة لإحدى حكايات العهد القديم، وتم، خلال عهد الانتداب البريطاني، المطالبة بتغيير اسم البقعة إلى التسمية التوراتية، ولكن الادارة البريطانية رفضت ذلك، خشية غضب العرب، والآن ورغم تغيير الاسم وتهويد الحي، وخلوه من العرب، إلا انه ما زال يعرف حتى في الأدبيات الاسرائيلية باسم البقعة.

مصادر تاريخية إسرائيلية، تتحدث عن مشاريع لاستيطان زراعي يهودي في الخمسينات والستينات من القرن التاسع عشر، في البقعة، إلا انها لم تتحقق.

الحي الجديد

 بدأت الحياة تتبلور في البقعة، مع انشاء الكولونيالية الالمانية عام 1873م، ولاحقا الكولونيالية اليونانية، وتأسيس حي النمامرة بينما سيعرف بالبقعة الفوقا، وحي الوعرية في البقعة التحتا. ويعتبر الحيان، من أقدم مشاريع العمران الموثقة في القدس الغربية.

اتخذ العمران في الحي خطوة مهمة إلى الامام، مع خط سكة الحديد عام 1892م بين القدس ويافا، وحسب بعض المصادر، فان الشركة المسؤولة عن تنفيذ المشروع، كانت تدفع إلى مشايخ قرية المالحة وقرى بني حسن، مبالغ من المال بمثابة (خاوة) للحفاظ على الأمن في تلك المنطقة الموحشة.

مع بدء مشروع خط سكة الحديد، بُنيت قرب محطة (قدس شريف) مساكن بسيطة سكنها الموظفون في المحطة، وبعد سنوات قليلة تم هدم هذه المساكن، لتبنى مكانها منازل حملت الطابع الريفي في البداية، بعد انتقال أوّل العائلات المقدسية للسكن في حي البقعة، ولاحقا تدفقت العائلات المثقفة والثرية إلى الحي، وأصبحت المنازل في شكلها الخارجي وتوزيعها الداخلي مزيجا من الانماط الشرقية والغربية. فتميزت منازل الحي بمداخل جميلة وشرفات واسعة، وبغرف فسيحة واروقة.

من هذه المنازل مثلا منزل المهندس الكهربائي سبيرو سبيريدون في البقعة الفوقا الذي بُني عام 1941، صممه سبيرو بنفسه، ولاحقا بعد النكبة استخدمه المحتلون، مكتب اتصال بين حكومة الاحتلال والامم المتحدة.

في فترة الانتداب افتتح في الحي، النادي الأرثوذكسي العربي، الذي ضم قاعة تتسع لمئة شخص، نظمت فيها نشاطات اجتماعية وثقافية، من بينها محاضرات للمفكر والتربوي خليل السكاكيني، وعرضت فيها المسرحيات.

ووجد في الحي، ملعب لكرة المضرب، ومستشفى، وأصبح إحدى المناطق المفضلة للبرجوازية الفلسطينية المتعلمة، ورجال الأعمال، ليس فقط من القدس، ولكن من الوافدين عليها، من أصحاب الوظائف الحكومية وغيرها. مثل عبد الرحمن بشناق من طولكرم المدرس في الكلية العربية. ومن العائلات التي سكنت الحي: السلطي، وفرح، وعودة، وقرع.

حي النمامرة

 عائلات النمري والوعري وفرعون كانوا الرواد، في القدوم للسكن في الحي، ورغم تحسن الأمن، بوجود الكولونيالية الالمانية ثم اليونانية، وحركة القطارات إلا ان العيش في المكان كانت يتطلب جرأة، مع الحديث عن الحيوانات المفترسة، وقطاع الطرق.

حسب الباحث طاهر النمري، في بحث له عن حي النمامرة: "تلازم حي النمامرة في البقعة مع وصول أول المهاجرين الالمان البروتستانت سنة 1873م، الذين حصلوا على ارض من الحكومة العثمانية".

يضيف النمري: "تركت عائلتان البلدة القديمة لتسكنا خارج الأسوار. توجهت العائلة الاولى، النمري، إلى البقعة التحتا، بينما انتقلت العائلة الأخرى، الوعري، إلى البقعة الفوقا. واشترى عبد الله ابراهيم محسن النمري الأرض من أهالي المالحة وبيت جالا وبيت لحم. وسجلت الأرض في المحكمة الاسلامية باسم عبد الله النمري كوقف للعائلة".

ولكن لاحقا: "انتهكت سلطات الانتداب البريطاني قانون الوقف الاسلامي، الذي ينص على عدم امكانية بيع أملاك الوقف أو رهنها أو تاجيرها لفترات طويلة، وقامت بمصادرة 51 دونما من أرض وقف عائلة النمري لبناء ناد رياضي للبريطانيين. وتدخلت اللجنة الاسلامية العليا، وانتهت القضية بدفع تعويض مالي عن الأرض. واستعمل هذا المال لبناء سوق النمامرة التي وفرت للوقف دخلا اعيد استثماره في مبان جديدة".

حي الوعرية

 حصلت عائلة الوعري من المتصرف العثماني، على قطعة من اراضي الدولة في البقعة. وسموا بالوعري، لتركهم القدس المسورة، وسكنوا الارض الجديدة الوعرة.

حي الوعرية، يقع بين الطريق إلى بيت لحم وسكة الحديد، وحسب شمعون لندمان: "كانت عائلة عاشور الوعري أول عائلة تسكن منطقة البقعة، فقد اقام رب العائلة محمد الوعري، بيتا كبيرا لعائلته كثيرة الابناء، ولما كانت المنطقة خالية من الناس ومن البيوت، فقد اقام سورا عاليا حول بيته لحمايته من قطاع الطرق والحيوانات المفترسة".

ويضيف: "استيطان عائلة الوعري كان أشبه ببناء قروي زراعي، لانهم زرعوا الأرض الواسعة التي كانت تحت تصرفهم بالحنطة والشعير، بالإضافة إلى الاغراس وكروم الزيتون والعنب، وكان أبو عاشور رب عائلة محترمة، فرض طاعته على جميع افراد العائلة الكبيرة، وعين مختارا لجميع منطقة البقعة والقطمون".

وانشأت عائلة الوعري، مطاحن للحبوب، ومعاصر للزيتون، وأماكن لتخزين الزيت، وكل ما يلزم الحياة الريفية.

نكبة الحي

 تعرض حي البقعة، مثل الأحياء العربية غرب القدس، إلى نكبة عام 1948، لم تكن متوقعة. في 16 ايار من ذلك العام، احتلت العصابات الصهيونية حي البقعة، الذي لجأ معظم سكانه إلى القدس الشرقية، انتظارا للعودة من جديد بعد ان تصمت المدافع.

بقي في الحي قلة من العرب، معظمهم من حراس الاديرة، ومن الذين ظلوا الكاتب الأرمني جون روز، الذي غادر الحي بعد أربعة أعوام عبر بوابة مندلبوم، إلى القدس الشرقية.

في مذكراته التي صدرت بالإنجليزية يذكر روز عن احتلال الحي: "لم تكن هناك مقاومة من أي نوع، دخلوا بكل بساطة! واحتلوا بالتدريج البنايات الواقعة في الأماكن الاستراتيجية. البيوت كلها تقريبا كانت خالية، ودلت الموائد التي وضعت عليها اطباق تحتوي على طعام لم ينته اصحابه من تناوله، على ان السكان فروا في حالة من الفوضى والعجلة والخوف. وفي بعض المطابخ تُركت المواقد مشتعلة، وهو ما حوّل الوجبات المنتظرة إلى بقايا متفحمة".

في حزيران، كان وقف اطلاق النار، فرصة لليهود، لنهب المنازل الخالية في البقعة، ويبدو ان عمليات النهب استمرت لاحقا، كتب روز: "في نهاية 1948م، تم نهب جميع البيوت التي اجلي سكانها ولم يبق فيها شيء يذكر. أما نحن البقية الباقية فقد شارفت أعصابنا على الانهيار وأصبحت حياتنا اشبه بمعسكرات اعتقال على حافة ميدان معركة".

روجرز يتحدث عن عملية نهب كبيرة للبيوت العربية، تخللها: "تخريب شامل وحاقد للأبنية. كان الجيش هو من اقتحم البيوت أولا بحثا عن أشخاص ومعدات يمكن استعمالها. ثم أتى الباحثون عن الطعام، وبعد ذلك نُهبت الأملاك الشخصية الثمينة، شاهدنا من شرفة منزلنا عربات تجرها الخيول وشاحنات صغيرة محملة بالبيانوهات والثلاجات والراديوهات واللوحات والتحف والأثاث، وبعضها ملفوف بسجاد عجمي ثمين. كُسرت أقفال الخزنات المحتوية على نقود وجواهر وافرغت من محتوياتها، ونُقلت الأغراض المنهوبة للاستعمال الخاص، أو البيع في القدس الغربية. كان ذلك بالنسبة الينا امرا مؤلما جدا. بيوت اصدقائنا تنهب ونحن عاجزون عن التدخل".

يضيف: "استمرت هذه الحال عدة أشهر. الذين جاؤوا متأخرين قنعوا بما بقي للنهب. خلعوا بلاط السيراميك من على جدران الحمامات وانتزعوا مفاتيح التيار الكهربائي وأسلاكه، وتجهيزات المطابخ، ومواسير المياه وتوابعها. لم يفلت شيئاً: دخلوا إلى السقائف والاقبية، خلعوا الأبواب والنوافذ، كسروا بلاط الارضيات بحثا عن كنوز مخبأة، وامتلأت الغرف بأكوام النفايات. عندما حل الشتاء، تدفق الماء إلى البيوت الخربة المهجورة، وفي الليل، كانت الريح تعول والأبواب والنوافذ تصطفق فترجع البنايات الخالية صدى اصطفاقها، صوتا يلاحقك في مشهد اشبه بخرائب مسكونة بالأشباح. وكان مما يفوق القدرة على الاحتمال المرور بجانب هذه البيوت، المألوفة جدا، والتي أصبحت في غضون ستة اشهر غريبة إلى اقصى حد، بحدائقها المشعثة، وأبوابها الامامية ونوافذها المهشمة أو المشرعة على مصاريعها، وفوق ذلك كله، الخالية من اصحابها، كنا نعيش وسط بحر من الخراب".

معسكر اعتقال

 في شهر أيلول، بدأ توطين المهاجرين الجدد اليهود في البقعة، والاحياء العربية الاخرى، وحسب الباحث الاسرائيلي ارنون غولان: "اتبعت الحكومة سياسة الضم العملي للجزء الواقع تحت سيطرتها من القدس. "ان اسكان اليهود في الأحياء العربية سابقا كان من شانه ان يخلق وقائع على الأرض سيكون من الصعب تغييرها لاحقا في اطار اتفاق سياسي. وكان المهاجرون الجدد، المحتاجون جدا، الاحتياط الرئيس للحكومة والوكالة اليهودية في تأهيل هذه الأحياء".

يذكر الباحث ناثان كريستال ان ما تبقى من العرب في الحي، وهم قلة، اغلبيتهم من المسيحيين، تم جمعهم في البقعة الفوقا. يقول: "احتجز الفلسطينيون العرب الذين بقوا في ضواحي القدس الغربية في البقعة، وفي منتصف ايلول، جمعهم الجيش الإسرائيلي مجددا في منطقة مساحتها نصف ميل مربع محاطة بسياج من الأسلاك الشائكة. وكان يُسمح لهم خلال ساعات النهار بالتجول في منطقة سكنهم، ويفرض عليهم حظر التجول ليلا. وكان اللصوص الإسرائيليون يقتحمون السياج ويسرقون كل ما كانوا يستطيعون سرقته من غير اليهود. بالإضافة إلى ذلك كانت زمر من الجنود الإسرائيليين تقتحم البيوت بحجة البحث عن أسلحة وعرب مختبئين، وتسرف اموالا وجواهر واشياء أخرى ثمينة".

يضيف: "لم ترفع إسرائيل القيود المفروضة على الفلسطينيين المحتجزين في منطقة البقعة إلا في تشرين الثاني 1949. واصدرت لهم بطاقات هوية اسرائيلية، وصادر القيم على املاك الغائبين منازل عدد كثير من العرب المقيمين في منطقة البقعة، وارغموا على دفع ايجارات لدولة إسرائيل".

جون روجرز يذكر بانه تم مصادرة منزل عمته اوروزباغ: "بلغها القيم على أملاك العدو انه لم يعد لها حقوق في المنزل. واصبحت تعامل كمستأجرة".

يذكر طاهر النمري: "دافع السكان والمقاتلون عن أحيائهم حتى الهدنة الأولى. وهاجم الإسرائيليون خلال الهدنة اولئك الذين بقوا في الأحياء واخذوا بعض الأهالي سجناء، ولم يطلقوهم حتى الهدنة الثانية (رودس) في سنة 1949م، عندما سلموا إلى القوات الاردنية عبر بوابة مندلبوم. وتمكنت عائلتا شكري أمين النمري ويوسف رشيد النمري من البقاء في حي النمامرة بالالتجاء إلى الكنيسة الالمانية. وبعد الحرب حاولتا العودة إلى منزليهما، لكن السلطات العسكرية الإسرائيلية منعتهما بإعلان المنزلين أملاك غائبين".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق