أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

السبت، 11 أكتوبر 2014

‏منزل هاديء في شارع الأنبياء..!













 

رغم الضجيج المنبعث من حركة الناس، والمركبات في شارع الأنبياء بالقدس الغربية، إلا ان الهدوء العميق يلف أحد المنازل المبهرة معماريا، الذي تحيط به الأشجار، وكأنه جزيرة، كما أراده بانيه الفنان البريطاني العالمي وليم هولمان هانت (1827-1910).

قُبل هانت في الأكاديمية الملكية في انكلترا في عام 1844، وعرض أعماله الفنية، في السنة التالية في مانشستر. لم يكن راضيا عن أساليب التدريس الأكاديمية وكان يبحث عن أسلوب يلائمه، وهوية فنية خاصة به. ويبدو انه لم يتمكن من تحقيق ذلك في بلاده، خصوصا وان أعماله الأولى تعرضت لانتقادات مِن قبل النقاد. فجاء إلى فلسطين عام 1854م، بحثا عن مواضيع للوحاته في طبوغرافية الكتاب المقدس المفترضة، رسم هانت، الذي يظهر في صور له، بلحية حمراء، وزي فلسطيني تقليدي، مناظر ريفية فلسطينية، لا تغيب عنها سمات الفن الاستشرافي، ولوحات مستوحاة مِن القصص الدينية.

منزل للفن والشعر والموسيقى

بنى هانت منزله في عام 1876م، ليكون دارا لسكنه ومكانا لعمله، ويحمل الآن الرقم 64-شارع الأنبياء، ويعتبر نموذجا للطراز المعماري الأصيل المميز للشارع.

المنزل مكون من طابقين، وفناء كبير، وحديقة زُرعت فيها أشجار تميز حوض البحر المتوسط، وفي وسطها بئر ماء.

خلال الحرب العالمية الأولى، استولى الأتراك على المنزل، وأصبح مقرا لجنودهم. انتقلت إلى المنزل في عام 1916 الدكتورة هيلنيا كاجان (1889- 1978)، التي تعتبر من الأطباء الطليعيين في طب الأطفال. ولدت في طشقند، ودرست الطب في سويسرا، وهاجرت إلى فلسطين عام 1913. عالجت كاجان الأطفال من مختلف الديانات، واكتسبت سمعة اسطورية، لنجاحها في انقاذ أطفال من الموت والمرض. زوجها كان عازفا للكمان، وتحول المنزل الى مكان للقاء النخب الثقافية والفنية والموسيقية والاجتماعية في القدس. أمضت كاجان في هذا البيت ما يزيد على 60 عاما.

في عام 1925، وصلت إلى المنزل الشاعرة راحيل سينغر (1890-1931)، وأقامت في بيت صغير مكون من طابق واحد في الساحة. جاءت هذه الشاعرة، المصابة بالسل، إلى القدس، بناء على توصية من الأطباء، ولكنها لم تمكث طويلاً، فالوحدة الرهيبة التي عانت منها، جعلتها تترك المنزل وتنتقل إلى تل أبيب، ولكن اقامتها في القدس، لم تكن دون جدوى، واثمرت ديواناً يضم أغاني جميلة من بينها أُغنية شجرة الكمثرى المستوحاة من شجرة كمثرى زرعها الفنان هانت في الباحة.

كبش الفداء

الأعمال التي أنجزها هانت في فلسطين، حازت على شهرة عالمية، ومنها لوحته (كبش الفداء) أو (الكبش الضال) وتصور كبشا منبوذا على شاطئ البحر الميت، والتي أنجزها عام 1855.

البريطانية ماري إليزا روجرز التي جابت فلسطين خلال أعوام (1855-1859م)، وكتبت عن تجربتها، تذكر كيف التقت عام 1955 في مخيم القنصل البريطاني في منطقة الطالبية بالقدس ماعز صغيرة ولطيفة وأليفة: "تقتفي أثرنا حيثما اتجهنا، وهي الماعز ذاتها التي رسمها وليام هولمان هانت في لوحته ذائعة الصيت التي سماها كبش الفداء. كانت اثنتان من الماعز قد نفقتا قبل انتهائه من رسم لوحته، لكن هذه الماعز أصبحت أليفة للغاية وصارت تستجيب له عندما يناديها، وعندما أكمل العمل بلوحته وهب الماعز لهؤلاء الأطفال". وتقصد أطفال عائلات انجليزية كانت تقطن القدس.

وتتحدث روجرز عن لوحة أخرى لهانت رسمها شخص اسمه هنري وينتورث مونك: "الذي أمضى في البلاد عامين كاملين، أشبه ما تكون بحياة النساك والرهبان، رفيقه الوحيد خلال هذه الفترة كان الكتاب المقدس باللغة اليونانية. وسيلة اتصاله بالعالم لم تكن أكثر من صحيفة التايمز. أمضى معظم وقته في العراء ولم يدخل للبيت سوى للنوم وتناول الطعام. عرضت صورته النابضة بالحياة، والتي رسمها هولمان هانت في معرض الأكاديمية الملكية في العام 1860م".

وتذكر روجرز في مذكراتها التي صدرت أخيرا بالعربية بترجمة جمال أبو غيدا، كيف التقت هانت: "في محترفه القائم على جبل صهيون، واتيح لي متابعة سير العمل في لوحته الرائعة (اجتماع في الهيكل)، واستمتعت بتصفح مجلداته ودفاتر رسوماته".

مقعد شاغر

من أهم لوحات هانت التي لاقت شهرة في وقت لاحق هي "انتصار الأبرياء"، و"صباح مايو على برج المجدلية"، و" معجزة النار المقدسة". لوحاته لا تزال تثير اهتماما، في عام 1994، مثلا بيعت إحدى لوحاته في دار سوثبي للمزادات في لندن، بمبلغ 7,1 مليون جنيه إسترليني.

اهتم هانت، بالتفاصيل، والألوان الزاهية المتقنة، والرموز، وكان حريصا إضافة إلى ذلك، على أن تحقق أعماله أقصى قدر من الجاذبية الشعبية.

أمام دير مار الياس، على طريق القدس-بيت، يوجد مقعد حجري أبيض مميز، لا يبعد سوى أمتار عن الطريق. في زمن مضى، كان هانت يأتي إلى هذا المكان، متأملا في الدير الذي يشبه قلعة، والمناظر الطبيعية، ليرسم.

وبعد وفاته، تبرعت زوجته ايديث، بهذا المقعد، الذي يتميز بتصميمه ولونه ونوع حجره. صممته أرنا ران، تخليدا لذكرى جلوس زوجها فترات طويلة في المكان الفاتن، ونقشت ايديث على المقعد، آيات مِن الكتاب المقدس بالعربية، والعبرية، والانجليزية واليونانية.

ايديث هي زوجة هانت الثالثة، وشقيقة زوجته الأولى فاني، التي توفيت أثناء الولادة، ولم يكن مسموحا في بريطانيا الزواج من شقيقة الزوجة، فاضطر هانت وايديث إلى السفر خارج البلاد، ليتمكنا مِن عقد قرانهما.

ولد هانت في 2 أبريل (نيسان) 1827، في لندن، وتوفي في 7 سبتمبر (أيلول) 1910، في لندن، وبقي منه في القدس، منزل بهي في شارع الأنبياء، ومقعد أبيض شاغر في شارع القدس-بيت لحم.


 

 

هناك تعليق واحد: