أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأحد، 13 يوليو 2014

حكاية منزل على خطّ النار..!!















عندما انضم أنضوني برامكي، إلى جيرانه الجدد في حي سعد وسعيد بالقدس، خارج أسوار البلدة القديمة، عام 1932، وسكن في منزله الجديد، لم يخطر في أسوأ كوابيسه، المآل الذي سيصير اليه المنزل.

في عام 1948، أصبح المنزل على خط التماس، بين النيران المشتعلة على جانبي القدس، التي قسمت، سيطرت قوات الاحتلال الجديد على المنزل وحولته إلى ثكنة عسكرية، بالقرب من بوابة مندلباوم، حلقة الوصل الوحيدة والمتوترة، بين شطري المدينة المقدسة المقسمة.

قبالة المنزل، وجدت نقطة عسكرية للجيش الأردني، عرفت باسم نقطة ترجمان، بينما انضمت عائلة برامكي إلى قوافل اللاجئين، وخلال تلك الفترة، كان أنضوني برامكي، يجلس في القسم الأردني من القدس، يراقب منزله متعدد الطبقات التي سكنت فيه عدة عائلات، وهو يراه وتهدم جزئيا، بينما تطل من شقوقه رشاشات قوات جيش الاحتلال.

وما فعله برامكي، فعله آخرون ممن فقدوا منازلهم على خطوط التماس، مثل الدكتور توفيق كنعان رائد البحث الفلكلوري الفلسطيني، الذي كان يصعد على أسوار القدس، ليرى عمليات النهب التي تعرض لها منزله في حي المصرارة، وسرقة مكتبته الثمينة.

بعد حزيران 1967، وانتصار دولة الاحتلال في الحرب، أصبح بإمكان عائلة برامكي الوصول إلى المنزل، ورغم فخر قوات الاحتلال بانها تمكنت مما سمته "توحيد" المدينة، إلا ان نضال عائلة برامكي المقدسية لاستعادة المنزل، الذي سيطرت عليه مؤسسة حارس أملاك الغائبين الاحتلالية. باءت بالفشل.

ورفضت العائلة، عروضًا إسرائيلية بشراء المنزل، وإذا كان يمكن، فهم، سيطرة قوات الاحتلال على منزل أصبح على خط التماس، فان ما جرى للمنزل لاحقا، يشير إلى طريقة تفكير دولة الاحتلال، في استغلال كل ما يمكن استغلاله من أجل تسويق نفسها.

في عام 1970، حولت المنزل، بدلا من اعادته إلى أصحابه، إلى متحف يروي حكاية "توحيد" المدينة من وجهة نظر إسرائيلية، وأبقت على الدمار الذي لحق بالبناية خلال الحرب، مع إجراء ترميمات تسمح بإظهار ذلك الدمار، وكذلك ما أدخله جيش الاحتلال، داخل البناية مما يستلزمه موقع عسكري.

وبقي الأمر كذلك، حتى عام 1997، وبين عامي 1999-2005 لأسباب غير معروفة تماما، حولت سلطات الاحتلال البناية لـ "معرض فعال اطلق نداءا لضرورة التسامح، والتفاهم، والتعايش"-كما يذكر المسيطرون على المنزل، مع اغفال التناقض بين كل تلك المفاهيم وسرقة المنزل من اصحابه الذين يعيشون ليسوا بعيدا عنه.

ابتداء من عام 2005، أصبح المنزل مقرا لمتحف اطلق عليه المحتلون: (على خط التماس) مخصص للفنون المعاصرة بمبادرة من المصمم وامين العروض رافي اتجار، أما الدعم فمن عائلة المانية هي فون هولتسبيرنك. ومن الصعب معرف سبب عداء هذه العائلة الألمانية، لعائلة فلسطينية، إلى درجة دعم متحف أُقيم في منزل يعترف السارق بهوية أصحابه، بشكل سخي، ومتواصل-حسب تعبير إدارة المتحف الاحتلالية.

إدارة المتحف تصر على انه يعرض فنونا تتعلق بمواضيع اجتماعية، خصوصا ما تصفها موضوع الحياة المشتركة بين اليهود والعرب. وتغلف سيطرتها على المنزل، بلعب على الكلمات: "في مركز المعارض المتغيرة في المتحف تقف خطوط تماس قومية وطبقية وعِرقية ودينية في السياق المحلي والعالَمي".

في عام 2012، رحل الدكتور جابي برامكي، الشخصية الأكاديمية الفلسطينية، وابن صاحب المنزل الذي عاش طفولته فيه.

الدكتور عبد الرحيم الشيخ، كاتب مذكرات برامكي (1929-2012) التي من المتوقع ان تصدر بعنوان: (جامعة بيرزيت-بين القدس وبيروت: مذكرات جابي برامكي)، كتب بعد رحيل صاحب المذكرات: "إن هول النكبة فعل فعله في برامكي وعائلته التي أجبرت على الرحيل من البيت الذي شاده والده بحبة القلب. فبعد أخبار مجزرة دير ياسين المروعة، أسهم إطلاق النار من رشاشات العصابات الصهيونية على بيت عائلة برامكي في ترويع العائلة التي رحلت، مع عائلة توفيق ناصر، ولم يسمح لهم إلا بأخذ حقيبة واحدة. يستذكر برامكي أثاث البيت، وزواياه، وغيرها من التفاصيل، ويحتفظ بقالب الحلوى الذي أخذته العائلة قبل المغادرة".

وعندما دخل جابي برامكي منزله، الذي تحول إلى متحف، غلبه الدمع: "وهو يتلو ما تثيره فيه تلك الذكرى من شجن، أبيات من رائعة أبي تمام:

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول

 كم من منزل يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل".

وعندما قررت الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية لإسرائيل، التي نشط فيها الدكتور برامكي، ضد متحف (على خط التماس)، يتذكر الناشط في الحملة حيدر عيد: "كان جابي يشارك في التفكير والتخطيط بتجرد من علاقته المباشرة مع القصة. استمر ذلك حتى وصف لنا جابي كيف كان والده، مهندس البيت وصاحبه، يذهب كل يوم إلى الحد الفاصل بين شطري المدينة المقدسة المنكوبة، ليجلس ساعات يراقب بيته المنهوب، بصمت، بحرقة، وبإصرار على التواصل معه، على الأقل روحياً. وقتها تغلب الحزن لوهلة على رباطة جأش جابي، ولكن فقط لوهلة! وسمعت من زميلة لي أنها رأت دمعة تسيل على خده".

رانية الياس، مديرة مؤسسة يبوس بالقدس، كتبت عن منزل عائلة برامكي: "ترجع ملكيته حسب الأوراق الرسمية منذ الانتداب البريطاني و"الكوشان" الأردني عام 1958 والكوشان الإسرائيلي عام 1972 إلى "إفلين برامكي". أربع عائلات فلسطينية كانت تقطن البيت حتى عام 1948 حين استولى عليه الجيش الإسرائيلي. ورغم المحاولات العديدة لاسترجاع البيت بعد عام 1967 من قبل أنضوني برامكي وابنيه: د. جابي والمهندس جورج؛ إلا أن المحاولات باءت بالفشل. وحاول الاحتلال الإسرائيلي من خلال بلديته شراء البيت من آل برامكي؛ إلا أنهم رفضوا التفريط بأي شبر منه، وما زالوا يحتفظون بجميع الأوراق الثبوتية لملكيته، حالهم حال الآلاف من الفلسطينيين اللاجئين".

خارج المنزل، ما زالت أشجار زيتون معمرة، صامدة في المكان، في تناقض مع آثار الدمار على واجهة المنزل، وهي شاهدة على الأيدي التي زرعتها، ولم تكن ربما تعلم، ان هناك أيدي أخرى، قادرة على إحداث كل هذا التخريب والألم، وتغليفه بطابع فني.


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق