أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأربعاء، 22 يناير 2014

الجنون أسلوب حياة في فلسطين/سليمان الفيومي


تحكي رواية “مجانين بيت لحم” لأسامة العيسة، الصادرة عن دار نوفل ببيروت سنة 2013، عن وطن المجانين الفعلي، وناسه، وترمز إلى الوطن الذي يتآكل تحت وطأة التغيرات السياسية التي تعصف به، وتقتحم موضوعا يكاد يكون بكرا في الأدب العربي الحديث، وتقدّم الفلسطينيين كما هم، بشرا، دون نبرة خطابية ولا مناجاة غنائية.

تصوّر رواية “مجانين بيت لحم” بسرديتها عالم مدينة بيت لحم و”مجانينها”، وحقيقة الأحلام والانفعالات والطموحات والتخيلات في وطن الأحلام الفلسطيني الضائع وفردوسه المفقود.

هذه الرواية هي كوميديا سوداء على صورة تغريبة فلسطينية داخل أسوار وطنها المحتل. عندما تكتب عن الرواية تحتار في وصفها، إنها طراز روائي متشابك غريب عجيب جمعت بين الماضي والحاضر تنقلك من مكان إلى آخر، وينقلك الراوي إلى روايات أبطاله دون أن يشعرك بالملل. يتنقل في التاريخ السحيق وبين شخوصه منذ الرومان والاحتلالات العثمانية والبريطانية والإدارة الأردنية للضفة الغربية والاحتلال الإسرائيلي وعهد السلطة الوطنية الفلسطينية، ومسلسل القمع والسجن والإرهاب في تلك العهود.

لوثة الجنون                        

شخصيات الرواية و”مجانينها” الحقيقيون والعقلاء هم أُناس عاديون بعضهم سذج والآخرون ناضجون غير أنهم جميعا من الإمبراطور الألماني غليوم إلى آخر العقلاء قد عانوا من “لوثة” بيت لحم، وشرارة الدهيشة وطن مجانين فلسطين والعرب.

تعيدنا الرواية إلى مغامرة إبراهيم باشا ابن والي مصر محمد علي، ومغامراته الشامية في فلسطين وسوريا ما بين عاميْ 1831-1840 وهزيمته، حيث أسس جنوده الذين بقوا في فلسطين قرى وبلدات أصبحت بعد قرن من الزمن، ضمن القرى التي يتباكى عليها الفلسطينيون، بعد أن فقدوها في النكبة الأولى عام 1948. الجنون الذي يعصف في هذا الوطن لم تسلم منه الطوائف المسيحية، حتى كنيسة المهد المقسمة بين الطوائف المختلفة هي حصيلة توازن القوى الدولية الناتج عن حرب القرم حيث حدد لكل طائفة حقوقها في الكنائس الرئيسة في فلسطين.

اختلاف الرهبان في الأرض المقدسة في بيت لحم هو “لوثة جنون” أصابت هذه البقعة المقدسة من العالم، البقعة التي تفخر بأنها حملت رسالة السلام إلى العالم، ولم تستطع صنع سلامها الخاص. لم تنس الرواية مجازر الأرمن والسريان على يد العثمانيين. ارتبط اسم الدهيشة بمغامرين أتوا من خلف الحدود، واجتازوا البحار وكتاب ومستشرقين وفاتحين وغزاة، وأفاقين، ساروا بمحاذاتها على شارع القدس- الخليل، ومجاهدين عرب وصحافيين، لم ينقصها شيء لتكوّن أسطورتها الخاصة، إلا شهرتها كمكان يذهب إليه المجانين.

تشير الرواية إلى شخصيات فلسطينية كبيرة ومنهم جبرا إبراهيم جبرا السرياني ابن بيت لحم، وإلى سليمان بن الشيخ يوسف جاسر صاحب قصر جاسر القريب من قبة راحيل على شارع القدس- الخليل، الذي يشكل معلما من معالم بيت لحم. تحوّل هذا القصر في عهد السلطة الفلسطينية إلى فندق الانتركونتيننتال. هذا القصر يشكل مؤشرا على التغييرات الاقتصادية والاجتماعية والدينية والسياسية التي مرّ بها الشعب الفلسطيني خلال أكثر من قرن، حيث “..تزيّن مدخل القصر المهيب، على واجهته الأمامية، الآية القرآنية 53 من سورة النحل.

مجانين الوطن

يؤكد العيسة في روايته على مخيمه، مخيم الدهيشة، الذي بناه المشرّدون الأميون، الذين أتوا من الساحل والسهل الساحلي والهضاب الوسطى وجبال القدس والخليل الذي تحوّل إلى رمز لقضية اللجوء، وهناك الدهيشة المجاورة لمستشفى الأمراض العقلية والنفسية والعصبية “دير المجانين” التي هي موطن المجانين، “وقد قدر لشباب الدهيشة أن يجربوا السجون في العهدين الأردني والإسرائيلي”.

المشرّدون الفلسطينيون واجهوا واقعهم بشجاعة ولم يكن لهم خيار آخر، فأسسوا المدارس تحت الخيام، نشطوا في الأحزاب السياسية على مختلف توجهاتها ومسمياتها، وعاشوا آملين، وعانى كثيرون منهم، وبدلا من عودتهم إلى قراهم التي هجّرتهم منها البربرية الإرهابية الصهيونية بتواطؤ عربي -أوروبي غربي وشرقي- وأميركي، أتى إليهم الغزاة الإسرائيليون في يونيو 1967. يغوص الكاتب في التاريخ الفلسطيني ويروي عن خليل السكاكيني قصة “العلم النبوي” الذي زعم الألمان والعثمانيون أنه راية النبي محمد ونظموا مواكب واحتفالات له في ربوع البلاد التي تسيطر عليها الدولة العثمانية المحتلة للتأثير على مشاعر الناس الدينية، وإلهاب حماسهم لحرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ويذكر السكاكيني عن مشاركة الحاج أمين الحسيني وصحبه؛ ومن الجدير ذكره أن الحسيني تزعم في ما بعد الحركة الوطنية الفلسطينية التي منيت بهزيمة 1948، ومع ذلك بقي قائدا لها. ومثلما هزج الفلاحون الفلسطينيون للإمبراطور الألماني غليوم، هزجوا للحاج أمين بعد ذلك بسنوات “سيف الدين الحاج أمين” وكما يقول السكاكيني، فإن الشرق لا يعرف للوطنية من معنى، ولكن العاطفة الدينية فيه شديدة التأثير، ومن يدرس أحوال الشرق اليوم، يرى أن الانحطاط الذي صار إليه الشرق من أجيال، قد أفسد حتى هذه العاطفة الدينية.

انتقلت الرواية إلى مرحلة السلطة الفلسطينية و”الختيار” أوّل رئيس للسلطة وأسلوبه وخياراته في إدارة الحكم. وعرّج على ما وصل إليه مسار أوسلو السياسي من مأزق حيث اعتبر الإسرائيليون والغربيون “الختيار” حجرة عثرة في مسيرة السلام الخادع، وأجبروه على استحداث منصب رئيس الوزراء ليقللوا من صلاحياته ولكنه ظل يقاوم حتى اللحظة الأخيرة. لعل مجانين الدير هم أوّل من شخّص المرحلة، ولعل أحدهم أرسل للراوي أهزوجة “في المشمش” التي تشخّص بجرأة الوضع السياسي.

وطن العقلاء

الرواية واصلت مسارها في كشف ما جرى في انتفاضة الأقصى وتجاوزاتها وفضحت الإرهاب الصهيوني وإغراقه مدينة المسيح بالدم والنار والبارود. وفي الرواية كانت عودة روسيا في عهد بوتين إلى بيت لحم ليعيد أمجاد روسيا القيصرية في فلسطين، وبناء المركز الثقافي الروسي والمدرسة الروسية قبالة المدرسة اللوثرية الألمانية في وطن المجانين حيث تظهر من عدة جهات، المستوطنات الإسرائيلية اليهودية بقرميدها الأحمر، حلم الصحافي النمساوي تيودور هرتزل أمام الإمبراطور الألماني غليوم مشكلة طوق استيطاني على وطن العقلاء، الذين شكّلوا طوقا آخر على “وطن المجانين”.
http://www.alarab.co.uk/?id=13333

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق