أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأحد، 13 مايو 2012

بِرت معلوف: حكاية لبنانية على أرض فلسطين

هناك حَبل سرة يربط بيت لحم ببيروت. لا يعرف أحد متى مُدّ بين المدينتين، الدكتور ميخائيل معلوف، طبيب صحة بيت لحم اللبناني، قُتل عام 1947 في حوادث القتل العشوائي التي ترافق المحن والفوضى. زوجته بِرت أسست الاتحاد النسائي. فتم فتح مركزي إسعاف، لاستقبال جرحى حرب فلسطين، بدت البيتلحميات المتطوعات بملابسهن البيضاء ملائكة رحمة حقيقيات. كتب قائد المتطوعين العرب أحمّد عبد العزيز، الذي لا يُذكر اسمه إلا مسبوقا بصفة بطل، كلمات مشجعة في دفتر الزوار. الجميع كانوا متشجعين، ومتأملين، وصلت المساعدات من مختلف دول المهجر.
دعت بِرت معلوف أرملة طبيب صحة بيت لحم، وطبيب مستشفيات الحكومة السابق للأمراض العقلية. فريقًا من سيدات وأوانس المدينة، إلى اجتماعات في دارها، وتداولن فيما يمكن أن يقدمن في ظروف الوطن المشتعل، حيث تشتعل النار غير المقدّسة في الأرض المقدّسة.
سعت حتّى عقدت اجتماعا كبيرا في قاعة سينما ديانا يوم 7 كانون الأوّل 1947، على وقع هبوب العواصف، ورفض قرار التقسيم، وجاءت من القدس زليخة الشهابي رئيسة الاتحاد النسائي العربي في القدس، وميليا السكاكيني أمينة سره، وكثيرات من نسوة بيت ساحور وبيت جالا.
تحدثت بِرت، وتحدثت الكثيرات، عن الواجب والحق والوطن الذي يشتعل، وانتهى الاجتماع بانتخاب بِرت اللبنانية رئيسة للاتحاد النسائي في بيت لحم بالإجماع.
صرخت بِرت بحماس: «هذا يوم الفصل، هذا يوم الجهاد، هذا يوم فلسطين..!»
وارتدت وزميلاتها الأردية البيضاء، ودخلن وسط ألسنة اللهب، يبحثن عن أنات الجرحى المتطوعين، وتَلَقَيّن مبادئ الإسعاف، من أطباء متطوعين، الجميع أراد أن يتطوع، وتطوعوا دون انتظار إذن من أحد، مثل أحمّد عبد العزيز ورفاقه.
الدكتور ميخائيل معلوف، المنقوش إسمه على لوحة سوق بيت لحم القديمة التأسيسية كما يلفظ: ميخايل، الذي كان أوّل مَنْ تطوع. وألقى دروسًا طبية على زوجته وصويحباتها، ولكن لم يطل به الأمر كثيرًا، قضى في البداية، بداية المعركة، معركة الأرض المقدّسة، وبداية الحلم، وبداية التطوع، لم ينته شهر كانون الأوّل 1947، حتّى ارتقى في يومه التاسع والعشرين، وهو في طريقه إلى مشفاه في الدهيشة، ليعاين ويعالج. مَنْ قتل ميخائيل معلوف؟ سيتحسر التلحميون، وستدمع عيون التلحميات، حُزنا عليه وعلى بِرت، ولن يقولوا ولن يقلن الكثير، قُتل الدكتور ميخائيل في كمين، قُتل بأيدي يفترض أنها صديقة، قتلته الفوضى.
وحتى الان يتجنب معاصرو تلك المرحلة، الحديث بصراحة عن جريمة قتل لكل هذه الخسة. هل هو الخوف؟ ام ثقافة ازاحة الغبار تحت السجادة؟.
بدا حلم بِرت وكأنه إنتهى قبل أن يبدأ، ريما مؤشر على ما ستذهب إليه الأمور في معركة المصير، ربمّا أسعفها حزن الناس، وشعورهم بالفجيعة، برحيل ميخائيلهم السريع، وغير المتوقع، لم تخلع لباس ميدانها الأبيض. وأسست مركزي إسعاف ولجنة خياطة ونسيج، لنسج الألبسة الصوفية للمتطوعين، ولجنة مالية ودعاية.
تقدمت بِرت سيداتها، طفن على التلحميين والتلحميات، جمعن الأموال، ووجهت نداءات لأولئك في المهاجر الأميركية، أحفاد الهاربين من البلاد الشامية، كتبت بِرت:
«إلى إخواننا في المهجر من أبناء بيت لحم وفلسطين وسوريا ولبنان الكرام..
أما بعد، فهذا نداء القلب وهتاف الوجدان وصرخة الضمير تتقدم بها إليكم أختكم التلحمية العربية في فلسطين انتم أبناء الوطن الغالي فاسمعوا أعزكم الله».
«وعصفت السياسة الدولية لتقسيم فلسطين، الوطن الذي خلفه الآباء والأجداد بعد أن امتزجت ذراته بدمائه الزكية، وديعة ثمينة وتراثا غاليا في ذمة الأبناء والأحفاد».
«وكان بعد هذا ما تعلمون من قيام أبناء هذه البلاد وعرب البلاد الشقيقة لرد الظلم الواقع والعمل على حفظ فلسطين عربية حرة خالصة. وحملت صحف العالم وشركات الأنباء والبرق أصداء ما يجري في البلاد التي ولد فيها سيد السلام وغدت اليوم بفضل السياسة الغاشمة في شبه غمرة من الدم والحديد والنار مما لا نحتاج معه إلى بيان».
«وهزت الحمية أخواتكم وبناتكم في مدينة مهد المسيح فأسسن فرعا للاتحاد النسائي يضم فروع الإسعاف الأوّل وتطوعت الكثيرات للعمل به بدافع الوطنية والإنسانية وضربن بما قمن به المثل الأعلى للتضحية وإنكار الذات وانبرين وراء ذلك الواجب الوطني فجمعن من كرام أبناء هذه المدينة ما تبرعوا به مؤازرةً وعن طيبة خاطر مبلغا من المال يساعدهن في القيام بمركزي الإسعاف الأوّلي اللذين افتتحا في بيت لحم لخدمة الجرحى والمناضلين العرب».
«ومما تسرنا الإشارة إليه أنّ جمعيات الكشافة المنضوية تحت لواء مختلف الطوائف في هذه المدينة المقدّسة والمؤلفة من خيرة فتياتنا قوة وعلمًا وأدبًا سارعت وعينت عددًا كريمًا نعتز به يقوم بنقل المصابين والسهر عليهم والاستعداد لاستقبال كلّ من يأتي في أية ساعة من ساعات النّهار أو الليل. والوقوف إلى جانب من يتناوبن في تضميد الجراحات فكن بذلك مدعاة فخرنا وإعجابنا والاطمئنان على تنظيم أعمال مركزي الإسعاف».
«ومِنْ أجل تلبية نداء الوطن الصارخ في وجه بنيه وقد جَيَّش الخصوم حملات الفتك والتدمير للقضاء قضاء مبرماً».
ملائكة بيت لحم والنار مشتعلة في الأرض المقدّسة، كن يبتسمن، وكانت بِرت، تتعالى على آلام رحيل ميخائيلها، وهي تربت على أكتاف الجرحى، الذين نُقلوا من معارك الدهيشة، وكفار عتصيون، والقطمون، والقدس، ورمات راحيل، ومار الياس، وبيت صفافا، وعرطوف، وصوبا، وسلوان، وتل بيوت، والمالحة، واللد، وصور باهر، وعين كارم، وعسلوج، وبيت الجمال، وطبالية، وباب الواد، ونحالين.
دخل لمركزي الإسعاف 847 جريحًا، كم مرّة ابتسمت بِرت، لفلسطينيين ومصريين، وأردنيين، وعراقيين، وسوريين، وليبيين؟ كم مرّة ربتت على أكتافهم؟ هل رأت فيهم روح ميخائيل تتوزع في أرواحهم، وتدب الحياة في أجسادهم؟، روح كنعانية تحتوي أجساد دفعتها الحمية إلى أرض الصراع.
قُدمت الجرزات الصوفية من بِرت ورفيقاتها، لحراس المدينة المتطوعين، والمقاومين، القابضين على الزناد تحت رحمة الشمس، وقرص البرد، وفوضى القيادات وتناحرها.
وذهبت معركة فلسطين في اتجاه لم تتوقعه بِرت أبدًا، ذهبت دماء ميخائيل هدرًا، لم يعد دمه يبرق نورًا، مبشرًا بالنصر والخلاص، فجأة هدأ كلّ شيء، لم تعد تسمع أصوات الرصاص، وكما ردد صحفي تلك الأيّام نصري جاسر: «خبا ذلك النور الذي توسم فيه عرب فلسطين، النصر والخلاص فلا معارك، ولا ميدان حرب، لا أزيز رصاص، ولا قصف مدافع، وليس إلا تنهدات يصعّدها أبناء هذه الأمة المكلومة، على ما حَل بهم من أمر لواقع محتوم».
وخلا مركز الإسعاف من الجرحى، وأعادت بِرت وسيداتها، الأغراض إلى أصحابها، المستلزمات والآسرة. انتهت قصتها بعد أن حاولت أن تُحي قصة ميخائيل، ولكنها اكتشفت أنها عاشت أسطورتها الخاصة.
وصل اللاجئون. افترشوا ساحة المهّد، والكنائس والمساجد، منتظرين العودة التي لم تأت، فسكنوا في مخيمات على أطراف المدينة، تحزمت مدينة السلام، ببؤس أخر، وعادت بِرت إلى لبنانها، انتهت أسطورتها، جفت دماء ميخائيل على تراب بيت لحم، وجفت دماء وأحلام وآمال كثيرة.
http://www.alhayat-j.com/newsite/details.php?opt=3&id=172442&cid=2587

هناك 3 تعليقات:

  1. My spouse and I stumbled over here coming from a different web
    page and thought I might as well check things out.
    I like what I see so now i am following you. Look forward
    to looking at your web page yet again.
    My weblog ... soccer transfer news

    ردحذف
  2. Today, I went to the beach with my kids. I found a sea shell and gave it to my 4 year old daughter and said "You can hear the ocean if you put this to your ear." She put the shell to her ear and screamed.

    There was a hermit crab inside and it pinched her ear.
    She never wants to go back! LoL I know this is entirely
    off topic but I had to tell someone!
    Here is my page - man utd transfer news premiership

    ردحذف
  3. Thanks for finally talking about > "بِرت معلوف: حكاية لبنانية على أرض فلسطين" < Liked it!
    Take a look at my blog post ... transfer news football january 2013

    ردحذف