أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الجمعة، 27 أغسطس 2010

ما زالوا يسرقون تاريخ فلسطين



تبنى الاخباريون العرب، والدين الاسلامي، الرواية التوراتية لتاريخ فلسطين، ما شكل اغتيالا لهذا التاريخ، ومنذ عقود، ولاسباب قد تكون سياسية، يحاول باحثون عرب تصحيح ذلك، ولكن عبر تطرف من نوع اخر، وبحثا عن مجد شخصي في اكتشاف غير المكتشف في تاريخ فلسطين.

فيما يلي تعليق كتبته على مقال استعرض فيه  صاحبه كتاب لفاضل الربيعي نشر في صحيفة الاخبار البيروتية اليوم الجمعة:
يقع الربيعي في نفس خطا كمال الصليبي القاتل، باعتقاد ان تاريخ التوارة صحيح والجغرافيا خطا، ويبني نظرية اعتمادا على اسماء اماكن وتطرف في تحويراتها.
التوراه كتاب في الميثلوجيا، تعرض للتحرير على فترات طويلة، بعض احداث التوارة، تم مطابقتها جزئيا مع مكتشفات لعلم الاثار كما هو الحال مثلا في حفريات سبسطية (السامرة) او  نقش سلوان، او مسلة ميشع، وكنوز القصور الاشورية.
الامر المثير في بحث الصليبي انه نقل احداث التوراة(بعجرها وبجرها) الى منطقة لم تجر فيها اية حفريات، وهو ما يعتبر فضيحة بحثية، لباحث كبير وجاد ومطلع، وفي الوقت ذاته لم يجر اية استكشافات سطحية في فلسطين، وهو حال الربيعي، واخرين اقل منهما ثقافة وعلما. امدوا المكتبة العربية بكتب استقرت اخيرا مع كتب الارصفة الصفراء.
ربما الاهم من البحث عن اماكن مفترضة لحدوث الرواية التوراتية، هو دراسة الميثلوجيا وهي نتاج ملاحم وحكايات كنعانية وعربية واشورية وغيرها. وهو ما يفعله باحثون غير عرب.
وفي اسرائيل يقدم اثاريون عملوا سنوات في الميدان، جهودا بحثيا مهمة في تفكيك النص التوراتي. في حين ان الباحثين العرب ينفقون وقتا في تحليلات لغوية عقيمة.
ما اشجع الباحثون والكتاب الذين يكتبون بيقين يحسدون عليه عن اماكن لم يزورونها، ولم يختبروا جغرافيتها، ثم يخترعون مواطن جديدة لاحداث على الارجح لم تقع اعتمادا على تطرف في تاويل لغوي لاسماء اماكن.
ومن المهم اخيرا التحذير من الاعتماد على الجهد البائس جدا للجغرافيين العرب، فيما يخص فلسطين القديمة والحديثة، وكذلك على التطرف الاستشراقي، ومن اراد ان يبحث في موضوع له علاقة بفلسطين، عليه ان يُكون علاقته الخاصة بارض البحث، ويعتمد على بحث ميداني على الارض، وليس في بطون الكتب والمخطوطات. 

 رابط المقال:

http://www.al-akhbar.com/ar/node/203900#comment-58798

ما زالوا يسرقون تاريخ فلسطين



تبنى الاخباريون العرب، والدين الاسلامي، الرواية التوراتية لتاريخ فلسطين، ما شكل اغتيالا لهذا التاريخ، ومنذ عقود، ولاسباب قد تكون سياسية، يحاول باحثون عرب تصحيح ذلك، ولكن عبر تطرف من نوع اخر، وبحثا عن مجد شخصي في اكتشاف غير المكتشف في تاريخ فلسطين.

فيما يلي تعليق كتبته على مقال استعرض فيه  صاحبه كتاب لفاضل الربيعي نشر في صحيفة الاخبار البيروتية اليوم الجمعة:
يقع الربيعي في نفس خطا كمال الصليبي القاتل، باعتقاد ان تاريخ التوارة صحيح والجغرافيا خطا، ويبني نظرية اعتمادا على اسماء اماكن وتطرف في تحويراتها.
التوراه كتاب في الميثلوجيا، تعرض للتحرير على فترات طويلة، بعض احداث التوارة، تم مطابقتها جزئيا مع مكتشفات لعلم الاثار كما هو الحال مثلا في حفريات سبسطية (السامرة) او  نقش سلوان، او مسلة ميشع، وكنوز القصور الاشورية.
الامر المثير في بحث الصليبي انه نقل احداث التوراة(بعجرها وبجرها) الى منطقة لم تجر فيها اية حفريات، وهو ما يعتبر فضيحة بحثية، لباحث كبير وجاد ومطلع، وفي الوقت ذاته لم يجر اية استكشافات سطحية في فلسطين، وهو حال الربيعي، واخرين اقل منهما ثقافة وعلما. امدوا المكتبة العربية بكتب استقرت اخيرا مع كتب الارصفة الصفراء.
ربما الاهم من البحث عن اماكن مفترضة لحدوث الرواية التوراتية، هو دراسة الميثلوجيا وهي نتاج ملاحم وحكايات كنعانية وعربية واشورية وغيرها. وهو ما يفعله باحثون غير عرب.
وفي اسرائيل يقدم اثاريون عملوا سنوات في الميدان، جهودا بحثيا مهمة في تفكيك النص التوراتي. في حين ان الباحثين العرب ينفقون وقتا في تحليلات لغوية عقيمة.
ما اشجع الباحثون والكتاب الذين يكتبون بيقين يحسدون عليه عن اماكن لم يزورونها، ولم يختبروا جغرافيتها، ثم يخترعون مواطن جديدة لاحداث على الارجح لم تقع اعتمادا على تطرف في تاويل لغوي لاسماء اماكن.
ومن المهم اخيرا التحذير من الاعتماد على الجهد البائس جدا للجغرافيين العرب، فيما يخص فلسطين القديمة والحديثة، وكذلك على التطرف الاستشراقي، ومن اراد ان يبحث في موضوع له علاقة بفلسطين، عليه ان يُكون علاقته الخاصة بارض البحث، ويعتمد على بحث ميداني على الارض، وليس في بطون الكتب والمخطوطات. 

 رابط المقال:

http://www.al-akhbar.com/ar/node/203900#comment-58798

الثلاثاء، 24 أغسطس 2010

مقال الدكتور سامي مسلم عن المسكوبية















في شهر تشرين الثاني 1984 سافرت إلى عمان من تونس لحضور اجتماعات الدورة السابعة عشرة للـمجلس الوطني الفلسطيني. كان والدي في تلك الأسابيع على فراش الـموت. ولكنه أصر هو ووالدتي على أن يحضرا إلى عمان. فتم نقل والدي بسيارة إسعاف من القدس إلى عمان، ليتمكن من أن يراني، بالتأكيد للـمرة الأخيرة.


وهكذا كان. خلال الأسبوع الذي قضيته معهما لـم يفق والدي من غيبوبته إلا مرتين. الأولى فتح عينيه وقال عندما شاهدني "حضرت لكي أراك"، والثانية كانت ربما صحوة من الـماضي. في تلك الفترة كانت أغنية "من سجن عكا طلعت جنازة..." التي غنتها فرقة (العاشقين) مشهورة. وكنا نستمع أنا والعائلة إلى هذه الأغنية الـمؤثرة. عندما انتهت، فتح والدي عينيه وأمر بصوت مسموع وواضح "اترك لي هذه الأغنية"، أمام دهشتنا جميعاً. توفي والدي بعد ذلك بثلاثة أشهر. ولكني أذكر هذه الحادثة الآن بعد أكثر من ربع قرن على وقوعها لأن الكتاب الذي بين أيدينا ذكرني بها وجعلني أتساءل: هل أحيت هذه الأغنية عند سماع والدي لها وهو في غيبوبته ذكريات رجل يحتضر وهو في ريعان الشباب عندما أعدمت سلطات الانتداب البريطاني الـمجاهدين الثوار الثلاثة عطا الزير ومحمد جمجوم ومحمود حجازي؟ ربما...

üüüü

ليس غريباً ولا مستغرباً أن ينشر بين الفترة والأخرى كتاب عن السجناء الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية أو عن القوانين التي تصدرها سلطات الاحتلال الإسرائيلي لتعطي نفسها إطاراً قانونياً لإلقاء الـمناضلين الفلسطينيين وراء القضبان.

وقد أصبح كتاب الأستاذ صبري جريس "العرب في إسرائيل" الصادر في العام 1968م عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت وكتابه الآخر "الحريات الديمقراطية في إسرائيل" الصادر في العام 1971م عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت مرجعاً يعتد بهما في مجال فضح التشريعات الإسرائيلية ضد الـمواطنين العرب أي الفلسطينيين في إسرائيل، منذ عام النكبة وما بعدها، وتعامل السلطات الإسرائيلية معهم لكبح النشاطات الوطنية التي يقومون بها للدفاع عن هويتهم الوطنية الفلسطينية والـمحافظة عليها. كما أن مقارنة الأستاذ صبري جريس بين هذه التشريعات والتشريعات الدولية والإنسانية والـمواثيق الدولية كافة ساهمت، مع مساهمات غيره من الباحثين والعاملين في مجال حقوق الإنسان، في تسليط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان التي تقوم بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ العام 1948م وحتى تاريخه. كذلك لـم يبخل الـمناضلون الفلسطينيون الذين عاشوا تجربة السجون الإسرائيلية بالكتابة عن عذاب هذه السجون وآلامها ووحشية السجان الإسرائيلي. ونشير هنا على سبيل الـمثال، لا الحصر، إلى مذكرات الـمناضل الراحل والقاص الفلسطيني، فاضل يونس، بعنوان "يوميات من سجون الاحتلال: زنزانة رقم 7"، الصادر عن دار الجليل للنشر في عمان في العام 1985. أما كتاب الأستاذ الشاعر فايز أبو شمالة بعنوان (السجن في الشعر الفلسطيني (1967 ــ 2001) الصادر عن الـمؤسسة الفلسطينية للإرشاد القومي العام 2003 فقد عالج بشكل موسوعي تطور الشعر الفلسطيني في السجون الإسرائيلية. وهي تجربة إنسانية أخرى من منظور أدبي.

وقد حازت التجربة الأليمة واللا إنسانية للسجناء والـمعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية الاهتمام الذي تستحق من جامعة القدس حيث أسست مركزاً لدراسات الأسرى والـمعتقلين في حرمها في أبوديس، الواقعة جنوب شرقي جدار الفصل العنصري الذي أقامته سلطات الاحتلال الإسرائيلي بين ما سلبته من القدس الشرقية ومحيط القدس وجامعتها في أبوديس.

وقد نال وضع السجناء والـمعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية الاهتمام الواضح والعملي من قبل منظمة التحرير الفلسطينية، الـممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، ومن السلطة الوطنية الفلسطينية، إن كان بتأسيس حركة فتح منذ بدايات انطلاقتها مؤسسة أسر الشهداء والأسرى، ونقلها بعد ذلك لـمنظمة التحرير الفلسطينية، أو من خلال نادي الأسير الفلسطيني أو من خلال وزارة شؤون الأسرى في الحكومة الفلسطينية. هذا الاهتمام واضح وجلي للعيان، مع أن الإنجازات لخدمة الأسرى لـم تكن دائماً بمستوى الطموح أو الآمال لأن الحمل ثقيل ولا يتوقف عند النواحي الـمادية، إنما يتعداه إلى النواحي الاجتماعية والنفسية والسياسية. كما أن قضية الأسرى والـمعتقلين أصبحت قضية رأي عام لكل عائلة وفرد فلسطيني لأنه لا تخلو عائلة فلسطينية من وجود أسير أو أسيرة أو أسير محرر بين أفراد تلك العائلة.

üüüü

الكتاب الذي بين أيدينا لا يخرج عن إطار هذا الاهتمام بالتجربة في السجون، ولكنه يتعدى هذا الاهتمام إلى رحاب أوسع مما يميزه عن التجربة اليومية الـمؤلـمة والأليمة واللاإنسانية التي يعيشها السجناء يومياً على مدار أيام أو أشهر أو سنوات اعتقالهم. هذا الكتاب من تحرير الأستاذ أسامة العيسة، الذي يقول في مقدمته إن صاحب هذه الـمخطوطة، اختاره دون غيره، ليرسل له هذا النص، أي الـمخطوطة. وصاحب النص، بالنسبة لأسامة، مجهول الهوية، ولذلك لـم يستطع أن ينسب النص إليه. وقد يكون صاحب الـمخطوطة أو النص، أراد أن يبقى مجهول الهوية ليضفي مصداقية أخرى على النص: مع أن النص يتضمن تجربة صاحب الـمخطوطة الذاتية إلا أنه آثر الابتعاد عن الضوء، ضوء الإعلام والنشر. وهو بالتالي لا يكتب عن تجربة السجن من باب الدعاية لأنه يريد إظهار بطولاته بالصمود في السجن، وله كل الحق في ذلك، أمام الـمحققين الإسرائيليين، ولا من باب الـمزاودة على أحد من رفاقه القدامى.

صحيح أن صاحب النص لـم يترك اسماً له أو عنواناً يمكن الرجوع إليه. لكن أحد أصدقائه، من رفاق النضال، أنطون، ابن القدس، يكشف عن اسمه الحركي. هذا الزميل كان في حافلة تسير في شارع صلاح الدين، أهم شارع خارج أسوار البلدة القديمة في القدس. يراه واقفاً على ناصية أو رصيف الشارع، فينادي عليه مشوحاً ومحيياً باسم "ربيع القرمطي". ولعل لكل من اسمه نصيب، خاصة أن الاسم الحركي يختاره الشخص بنفسه ولا يحمله لأن والديه أسمياه به. فهذا الاسم يدل على شخصية الكاتب حب الربيع، الأرض الخصبة، الشجر الـمنور، بدء بروز ونمو النبات والأشجار وتدفق الحياة الـمزهرة. والقرمطي إشارة إلى ذلك الـمناضل الذي خرج على الجماعة لتحقيق العدالة للـمحرومين والفقراء والـمحتاجين من أبناء عامة الناس في زمن الخلافة العباسية، وأقام دولة قوية في البحرين لأكثر من مائتي عام، قام أتباعه في إحدى الغزوات بسرقة الحجر الأسود من الكعبة ونقله إلى البحرين، مقر حكم القرامطة. بمعنى آخر فإن هذا الـمناضل، صاحب النص، من الـمناضلين اليساريين. وهو ينعت نفسه في النص بالراديكالية، أي أن صاحبنا هو من الـمجموعات أو الفصائل التي تصف نفسها باليسار الفلسطيني. وربما أستطيع أن أجزم أن صاحب النص من الجبهة الشعبية أو قريب منها، لأن الكتاب يبدأ بجريمة تدمير الـمقاطعة في أريحا في 14ــ15/6/2006 واعتقال الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أحمد سعدات، وهو الـمناضل الوحيد الذي يشير إليه محرر الكتاب دون غيره من الـمناضلين الذين اعتقلوا خلال اقتراف تلك الجريمة. وكذلك فإن الكتاب القريبين من الجبهة عادةً يضعون في كتاباتهم شخصيات مناضلة فلسطينية مسيحية يميزونهم بالاسم مثل "جورج" أو "أنطون" أو ما شابه. وهو أمر مفهوم من ناحية اجتماعية وعاطفية ووطنية، وفوق ذلك من باب الاحترام والـمحبة لـمؤسس الجبهة وقائدها الـمرحوم جورج حبش.

üüüü

أما محرر النص، أسامة العيسة، الذي استلـم النص، فقد أدخل بعض التعديلات الضرورية عليه ليجعله لائقاً للنشر. فقد قام أولاً بالتأكد من الـمعلومات التوثيقية فيه، وزيارة الأماكن الواردة أسماؤها بالنص، وشطب بعض الـمعلومات والأسماء، "لظني، أن الوقت لـم يحن، للكشف عن معلومات قد تبدو أمنية وتشكل خطورة على أصحابها" فيما لو نشرت، وقام بتمويه بعض الأسماء الحقيقية في النص. وقد وضع اسمه على النص ليتحمل الـمسؤولية عن نشره.

üüüü

مع أن محرر النص، أسامة العيسة، يعرّف على غلاف الكتاب هذا النص بالرواية، إلى أنني لا أعتقد أنه يعني الرواية بشكلها الأدبي الـمعروف لأن هذا النص لا يمتلك الصفات الـمطلوبة للنص الروائي. إنها رواية من نوع آخر، رواية أو سرد الذكريات عن وقوع الحدث أي السجن، ومعايشة صاحب النص، ربيع القرمطي، لـما يجري في السجن، أساساً الاعتقال والتحقيق، التعذيب والشبح، الضرب والتحقير، الحبس الانفرادي والـمنع من النوم، والبرد والجوع، وعدم معرفة ما سيصير، والخوف من الـمجهول، والـمجهول هنا بالأساس اليقين أو عدم اليقين من استمرار التحقيق أو حتى الانتهاء منه.

üüüü

يتكون الكتاب في ترتيبه من فصول ومقاطع مبوبة بالأرقام، ويقدم ترتيباً ذهنياً لتطور الحدث، ويكشف عن مقدرة كتابية كبيرة لدى صاحب الذكريات.

يفتتح أسامة العيسة تحريره للكتاب بإهداء إنساني حميم إلى ابنه "باسل، الذي كان عليه هو الآخر أن يكتوي بالـمسكوبية، وعمره (15 عاماً). وينتقل إلى الـمقدمة التي يسميها "خطبة الكتاب" حيث يشرح ظروف حصوله على الكتاب، ومن ثم يقدم عرضاً موجزاً، ولكن مؤثراً، لتاريخ إنشاء ما يسمى في فلسطين بالـمقاطعة. والـمقاطعة هي مبنى يتفاوت في ضخامته أنشئ بقرار من الانتداب البريطاني ليكون مقراً للحاكم أو القائد العسكري البريطاني في تلك الـمنطقة. وقد نسبت هذه الـمقاطعات إلى مسؤول الأمن الـمهندس البريطاني السير شارلز تاغرت، ضابط الـمخابرات والشرطة البريطاني الذي اشتهر بقمع الثورة والثوار دون رحمة أو وجل. الذي بناها بدءاً من العام 1938 لتمكين سلطات الانتداب البريطاني من التعامل مع الثورة الفلسطينية بالقمع والإرهاب، من السيطرة على الـمدن والريف الفلسطيني. ولذلك يطلق عليها أيضاً لقب "حصون تاغرت".

استخدمت إسرائيل، منذ احتلالها للأراضي الفلسطينية العام 1967، هذه الـمقاطعات للغرض نفسه، لكنها بدأت منذ العام 2000 بعملية تدمير ممنهج ومتتابع للـمقاطعات هذه، في محاولة منها للنيل من سلطة وصورة السلطة الوطنية الفلسطينية. وكانت آخر مقاطعة يدمرها الاحتلال الإسرائيلي تدميراً شاملاً هي مقاطعة أريحا في 14ــ15/6/2006. ويؤكد الكاتب أن هذه الحصون هي امتداد لـمراكز القشلة في العهد العثماني. وبالإضافة إلى كونها مقرات للحكام العسكريين أو القادة العسكريين البريطانيين فإنها كانت أيضاً تتضمن السجون التي زج بها أبناء فلسطين الـمناضلين من كافة الأعمار والفئات والطبقات الاجتماعية والـمذاهب الدينية لـمقاومتهم السياسة الانتدابية البريطانية في تعزيز ودعم الوجود الصهيوني على الأرض الفلسطينية. ويذكر ثلة من الـمفكرين والأدباء والشعراء الفلسطينيين الـمعروفين الذين زج بهم في السجون، مثل نجيب نصار وزوجته ساذج، والتي كانت هي وزوجها يفتخران أنها أول سجينة فلسطينية في حصون تاغرت، ونجاتي صدقي، وأكرم زعيتر وتوفيق كنعان وعجاج نويهض وغيرهم كثيرون. كذلك يذكر أبرز الـمناضلين والقادة العسكريين في ثورة 1936 وما بعدها، والـمحاكمات التي قدموا لها التي عادة كانت تنتهي بالحكم بالإعدام على الـمتهم وبتنفيذ الحكم بشكل عاجل خلال أيام من صدور الحكم. وذكر في هذا الـمجال قصة الـمناضل الشاعر الشعبي "عوض" الذي خلدته قصيدة كتبها هو والتي يقول في مطلعها (يا ليل خلي الأسير تا يكمل نواحه...)، وقد حفظها زملاؤه في السجن، ولحنت لاحقاً وغنتها فرقة العاشقين في الناصرة. وكذلك يذكر الـمرحوم الشيخ فرحان السعدي ونضاله والقبض عليه وإعدامه وهو في الثمانين من عمره. ويذكّر أيضاً بقصة إعدام الـمناضلين الثلاثة عطا الزير ومحمد جمجوم ومحمود حجازي الـمشهورة بالتاريخ الفلسطيني بقصيدة "الثلاثاء الحمراء" للشاعر إبراهيم طوقان وبقصيدة شعبية للشاعر الشعبي الشهيد نوح إبراهيم والتي يقول مطلعها "من سجن عكا طلعت جنازة...".

üüüü

في الفصول الأخرى، تبدأ قصة الـمعاناة منذ اللحظة الأولى، لحظة الـمداهمة من قبل جيش الاحتلال وآلته الأمنية والعسكرية، لإلقاء القبض على مناضل فلسطيني، ونقله إلى التحقيق، بعد أن يكونوا قد ناولوه في سيارة الاحتلال الوجبة الأولى من الضرب والإهانات والرفس بالأرجل أو بأخامص البنادق.

ولا يخفي كاتب النص أي شيء عاناه إن كان معاناة جسدية أو نفسية أو جنسية، ويشير الى طرق وأدوات التعذيب الإسرائيلية لانتزاع اعتراف من الـمتهم. ويشير إلى التعذيب النفسي الذي يسمعه الـمعذبون وهم يتعذبون من صراخ زملاء أو زميلات لهم يخضعون للتعذيب، ويكون الوقع أكبر عندما يسمعون صراخ الأسيرات ألـماً من التعذيب.

أنا لا أريد أن أدخل في تفاصيل قصص التعذيب اليومي للأبطال. فأنا لا أعتقد أن الكاتب كتب نصه هذا من أجل إبراز التعذيب. برأيي هذا الكتاب تميز لأن كاتبه أبرز قضايا أخرى مهمة تجري في عالـم ما وراء القضبان.

أول هذه الأمور أن معظم قصص التعذيب والتحقيق تجري بالـمبنى الـمعروف باسم الـمسكوبية في القدس خارج أسوار البلدة القديمة من الشمال الغربي. ويدخل في تفاصيل إنشاء وتاريخ العمارة واسمها ونسبه. واستشهد الكاتب بمقتطفات مطولة من مذكرات الـمرحوم واصف جوهرية وأخرى لغيره عاصروا قصة بنائه كمقر دبلوماسي وسياسي وكنسي وكمرفق للحجيج الروسي في البلاد الـمقدسة. وهذا يبرز الكفاءة البحثية والتحليلية لدى كاتب النص. أما في زمن الاحتلال الإسرائيلي فقد تحول هذا الـمبنى إلى السجن الـمركزي حيث يتم التحقيق وممارسة كل أنواع وفنون التعذيب والشبح والضرب والقتل والسادية التي يذكرها صاحب النص في كتابه ضد الـمناضلين الفلسطينيين. بالإضافة إلى ما تقدم، يهمني أن أبرز هنا مجموعة من القضايا تلفت الانتباه في هذا النص الـمؤثر.

1. في مذكرات قصيرة الطول، وقليلة الحجم، لا يزيد عدد صفحاتها على 157 صفحة من القطع الـمتوسط تظهر مقدرة الكاتب البحثية والتحليلية ومعرفته بالتاريخ الوطني الفلسطيني وبشعاب النسيج الاجتماعي الفلسطيني. لـم يطل بالاستشهادات ولـم يكن مقلا. بل وازن بين ضرورات الـمذكرات، إنها مذكرات عن الاعتقال والتعذيب، وأهمية إعطاء الجانب التاريخي حقه في الوصول إلى الجمهور وإقامة علاقة بين فعل التعذيب وممارسته وبين الواقع الفلسطيني النضالي.

2. أبرز صاحب النص، في عدة مواقع ما اعتبره نواقص غفلت عنها "القيادة الوطنية" في إعداد كادرها لحالات الاعتقال والتعذيب ومواجهة ذلك، أو في تقصيرها في التعامل الواسع مع مجموعات اجتماعية مثل سكان الـمضارب الرعوية والبدوية في البادية أو مثل النَوَر في الـمدينة. لـم يتحامل، صاحب النص في معالجته هذه على القيادة ولا على زملائه في النضال، وإنما كان يهدف من ذلك إلى تقديمَ نقد إيجابي لتذّكير قيادة التنظيمات بالاهتمام بهذا الفئات.

3. لقد أعجبت بانتباه صاحب النص لـمعطيات العالـم السفلي الفلسطيني كما شاهدها في السجون. بروح مندهشة، تفاجأ بوجود هؤلاء الـمتهمين مع الـمتهمين السياسيين. ولكنه أبرز مدى الاحترام الذي يكنه أصحاب العالـم السفلي للـمتهمين السياسيين، ولـم يكن هناك تنافس على القيادة بين الفئتين. فهولاء لهم عالـمهم والفريق الآخر له عالـمه. صاحب النص اعتبر وجود أعضاء فريق العالـم السفلي في السجن مناسبة مهمة، ربما لا تتاح له خارج أسوار السجن، ليتعرف إلى هذا العالـم. فيدخل في حوار مع قادتهم، ولا يعمل أستاذاً عليهم، فلهم تجاربهم الخاصة بهم التي قد تكون أيضاً مفيدة في حالات النضال. وقد برّز من بينهم ثلاثة رجال قادوا الحركة السفلية سابقاً واستشهدوا مناضلين: محمد الجابري أردي قتيلاً لقتله جندياً إسرائيلياً اشتهر بتعذيبه للفلسطينيين، أمون النَوري، أزعر، حشاش، استشهد وهو يدافع عن الـمسجد الأقصى، وأبو العراج، كذلك زعيم مافيا الحشيش، هب للدفاع عن الأقصى واستشهد تحت التعذيب. وبالطبع هذه أسماء قد تكون حورت أو كنايات استخدمت للتمويه على الأسماء الحقيقية لأصحابها. أوافق صاحب النص أن العالـم السفلي يحتاج منا إلى متابعة واهتمام علـمي واجتماعي وسياسي أكثر مما أعطي حتى الآن.

4. صاحب النص لـم يتحدث فقط عن معاناته والآلام التي سببها له التعذيب الخ. ولـم يتحدث عن هموم السجين الفلسطيني والصعوبات التي يواجهها يومياً في السجون الإسرائيلية. انتقل صاحب النص من (الأنا) إلى (الآخر)، السجين الآخر مثل السجين الفلسطيني، السجين الآخر هو الـمحقق، الذي يعذب السجين (الأنا) الفلسطيني. حاول صاحب النص بتجربته الإنسانية أن يلاحظ أولاً تصرفات الجنود الإسرائيليين في هذه الـمعتقلات وكيف تؤثر عليهم، هذا إن أثرت. هل عملهم الطويل في السجون سلب منهم الروح الإنسانية أم أنهم أصبحوا يتماهون مع وظيفتهم بحيث صار التعذيب جزءاً من هويتهم وطبيعتهم. ويتساءل: هل لهم حياتان، عالـمان، في السجن يكون الـمرء منهم وحشاً وخارج السجن يكون الـمرء منهم زوجاً وأباً وأخاً! ويتساءل كيف تتم هذه الازدواجية في الشخصية، أو حتى الانفصام فيها، وكيف تتعايش الشخصيتان؟ قصة (الكابتن جدير) (ص 29) الـمتماهي مع عمله وقصة الـمجند الروسي، (ص 63) الـمهاجر إلى إسرائيل، مثلان على هذه الازدواجية والتناقض، خاصة أنه أبرز دور هذا الـمجند الذي يحرس صاحب النص، ويمنع زملاءه من أفراد الشرطة أو الضباط الإسرائيليين الآخرين من أن يسيئوا معاملته، أي صاحب النص، وهو محبوس في قفص حديدي أمامهم، ويشتم إسرائيل والساعة التي هاجر فيها إلى إسرائيل، ويتشاجر مع أي من زملائه لو رأى منهم إشارة لإهانة الـمتهم. مثل هؤلاء الرجال قد يكونون قلائل في جيش الاحتلال، لكنهم موجودون.

5. هذه دراسات نفسية اجتماعية مهمة، قد تساعد على التعامل مع الواقع في السجون. وسوف تبقى هذه الشهادة أو الـمذكرات شهادة حية نابعة من تجربة شخصية عن آلام السجن والـمعتقل الإسرائيلي. وستبقى شهادة على وحشية الاحتلال وممارساته وسياساته تجاه الـمقاومة والثورة الفلسطينية. ولكنها، أيضاً، ستبقى شهادة إنسانية لأن الـمعتقل الفلسطيني وهو خاضع للتعذيب، يجد الوقت الكافي ليفكر في إنسانية الآخر، الجلاد، الذي ينزع عن نفسه صفة الإنسان حالـما يدخل حدود نطاق عمله كسجان أو كمحقق أو كآلة التعذيب. ورغم الألـم والعذاب يبقى الأمل باستمرار بالخروج من غياهب هذه السجون بانتظار الغد لأن الغد هو يوم آخر للحرية والانعتاق وإنهاء الاحتلال.
http://www.al-ayyam.ps/znews/site/template/article.aspx?did=147679&date=8/24/2010

الدكتور مسلم يكتب عن المسكوبية



الدكتور سامي مسلم مثقف وكاتب وسياسي وباحث، وهي الصفة التي يحب ان تطلق عليه، هنا مقال كتبه عن راوية المسكوبية:






أسامة العيسة، فصول من سيرة العذاب في السجون الإسرائيلية

 








 



د. سامي مسلـم
في شهر تشرين الثاني 1984 سافرت إلى عمان من تونس لحضور اجتماعات الدورة السابعة عشرة للـمجلس الوطني الفلسطيني. كان والدي في تلك الأسابيع على فراش الـموت. ولكنه أصر هو ووالدتي على أن يحضرا إلى عمان. فتم نقل والدي بسيارة إسعاف من القدس إلى عمان، ليتمكن من أن يراني، بالتأكيد للـمرة الأخيرة.
وهكذا كان. خلال الأسبوع الذي قضيته معهما لـم يفق والدي من غيبوبته إلا مرتين. الأولى فتح عينيه وقال عندما شاهدني "حضرت لكي أراك"، والثانية كانت ربما صحوة من الـماضي. في تلك الفترة كانت أغنية "من سجن عكا طلعت جنازة..." التي غنتها فرقة (العاشقين) مشهورة. وكنا نستمع أنا والعائلة إلى هذه الأغنية الـمؤثرة. عندما انتهت، فتح والدي عينيه وأمر بصوت مسموع وواضح "اترك لي هذه الأغنية"، أمام دهشتنا جميعاً. توفي والدي بعد ذلك بثلاثة أشهر. ولكني أذكر هذه الحادثة الآن بعد أكثر من ربع قرن على وقوعها لأن الكتاب الذي بين أيدينا ذكرني بها وجعلني أتساءل: هل أحيت هذه الأغنية عند سماع والدي لها وهو في غيبوبته ذكريات رجل يحتضر وهو في ريعان الشباب عندما أعدمت سلطات الانتداب البريطاني الـمجاهدين الثوار الثلاثة عطا الزير ومحمد جمجوم ومحمود حجازي؟ ربما...

الأحد، 8 أغسطس 2010

رواية القدس ثانية-عادل الاسطة


في أثناء متابعتي للنصوص الأدبية التي أتى أصحابها فيها على القدس كنت ألتفت إلى صلة الكتّاب بالمدينة، هل كان لهم صلة بها؟ هل أقاموا فيها؟ ما مقدار المدة التي أقاموها فيها؟ هل كتبوا عنها من بعيد؟

كنت درست القدس في الشعر العربي في ق 20، وتابعت دراسة قصائد أنجزت في ق12، فوقفت أمام أشعار راشد حسين ومحمود درويش وأمل دنقل ومظفر النواب واحمد دحبور، ومهدت، وأنا أحلل نصوص المذكورة اسماؤهم، بكتابة عن فوزي البكري وعلي الخليلي وعبد اللطيف عقل، وفيما بعد سأدرس قصيدة تميم البرغوثي "في القدس" وقصيدة عز الدين المناصرة "القدس عاصمة السماء".

وكنت درست القدس في القصة القصيرة في كتابات أربعة كتاب، هم: خليل السواحري ومحمود شقير وأكرم هنية وتوفيق فياض، وأتيت على صلة هؤلاء بالمدينة، كان هؤلاء يعرفون شوارع المدينة وأحياءها ومقاهيها وبشرها ولغة الأخيرين وأمثالهم.

وحين أقرأ روايات عديدة، في العام 2009 أنجزت لمسابقة القدس عاصمة للثقافة العربية، سألحظ أن عدداً لا بأس به منها تمحور حول المدينة، فالأفضلية في الرواية الفائزة للرواية التي تكون القدس بعداً مكانياً لها. ولم أفاجأ حين قرأت دراسة وليد أبو بكر، في "الأيام"، عن القدس في الرواية الفلسطينية، وتحديداً في روايات سحر خليفة وليانة بدر وديمة السمان وآخرين، وسأتذكر وأنا أقرأ دراسة وليد روايات أخرى لم يلتفت إليها.

ربما كان عنوان رواية نبيل خوري "حارة النصارى" )1974( عنواناً لافتاً، وربما كان عنوان رواية ابراهيم الصوص بعيداً عن القدس" )1986( أيضاً عنواناً لافتاً، غير ان رواية الأخير لم تكتب بالعربية، فلقد نشرها بالفرنسية، وربما كانت الروايات التي أتى فيها اصحابها على القدس، قبل العام 2000 قليلة، وعلى المرء ان يراجع دراسة د. عبد الله الخباص، فقد توقف أمامها، وإن بايجاز.

مرة كتبت إننا اذا أردنا أن نرى فلسطين في الأدب، فعلينا أن نقرأ الأدب العبري المكتوب قبل العام 1948 لا الأدب العربي، لماذا ببساطة لأن نصوصنا القصصية والروائية كانت قبل 1948 قليلة، وضعيفة ولم تلتفت إلى المكان الذي نبه ابراهيم طوقان إلى ضياعه، لا "الوارث" )1920( لخليل بيدس، ولا "مذكرات دجاجة" )1943( لاسحق موسى الحسيني، ولا "في السرير )1946( لمحمد العدناني، ولا غيرها من النصوص المكتوبة التفتت إلى المكان بتفاصيله، كان نثرنا في بداياته، خلافاً للنثر العبري الذي كتبه أدباء متمرسون قادمون من أوروبا، وكان المكان يهمهم فركزوا عليه. هل نخون وطننا حين نكتب هذا؟ لا أظن، ففلسطين كانت لنا، لكننا لم نكتب اماكنها كما وجب ان نكتبها، وفي هذا جدال ونقاش.

ظلت الرواية في فلسطين حتى 1974 تاريخ صدور المتشائل لإميل حبيبي شبه معدومة، ومنذ ذلك التاريخ بدأ روائيونا يكتبون ولكن على عجل، ربما الآن نملك عدداً لا بأس به من الروايات، لكن كم رواية منها تركز على المكان وتفصيلاته؟ وكم رواية منها انجزت عن القدس، عن شوارعها وزقاقها واحيائها وأهلها ولغتهم وأمثالهم واسماء مقاهيهم، وعن مجانينها ومقاوميها وحشاشيها وعلمائها وعائلاتها وعن الديانات فيها والتزاوج بين ابنائها ومشاكل مثل هذا الزواج و... و... و...

هل هناك كاتب روائي واحد عاش في القدس وانجز عنها قصة مثل السواحري وشقير وهنية في باب القصة، وفوزي البكري وعلي الخليلي في باب الشعر؟ لم أقرأ ديمة السمان في عملها "برج اللقلق" لأجيب، لكنني لا أعرف روائياً واحداً من ابناء القدس، سوى نبيل خوري، كتب رواية عن المدينة. وسيختلف الأمر مؤخراً.

في السنة الأخيرة قرأت، عدا رواية سحر خليفة "صوت وأيقونة وعهد قديم" و"أصل وفصل"، العديد من الروايات: "مصابيح أورشليم" لعلي بدر، و"مدينة الله" لحسن حميد، و"عائد إلى القدس" لعيسى بلاطة، و"المسكوبية" لأسامة العيسة، و"سوناتا لاشباح القدس" للجزائري واسيني الأعرج، و"مقدسية أنا" لعلاء حليحل، ورواية لكاتب من دير الغصون أنجزها لمسابقة رواية القدس بتاريخ 7/10/2009 لا أعرف، حتى اللحظة، اسمه أو عنوان روايته، فمؤسسة فلسطين للثقافة التي لم ترسل المكافأة لي ولم تجبني أيضاً حين طلبت منها اسم مؤلف الرواية وعنوان روايته، على الرغم من انها طلبت مني ان أحكم الروايات وأرسلت لي نسخاً منها من خلال أحد طلابي، وهو خليل القطناني.

حين قرأت حسن حميد، وأنا أعرف أنه لاجئ فلسطيني يقيم في مخيمات دمشق، كتبت: ما الذي يدفع كاتباً روائياً لا صلة له بالمكان لأن يكتب عنه؟ وكنت أعني أنه لم يعش في المكان، ولا يعرفه عن قرب. لا يعرف أمثال أهله الشعبية، ولا لغة الثورية السائدة بينهم، ولا يشم رائحة جدران المدينة، ولم يتذوق طعم كعكها المقدسي، ولا يتابع التغيرات التي تجري في المكان يومياً، ولا يلاحظ الجدران ولونها والنبات الذي ينمو بين احجارها، ولا يتشمم في الصباح رائحة الفجر فيها، ولا يداعب بائعة تين أو صبر ويصغي إلى ردود أفعالها، ولا يتابع قصص زواج ابناء الطوائف فيها، ما نجح منه وما أخفق، ولا يجلس على مقاهيها ويتابع الزبائن والعابهم وعلاقتهم بصاحب المقهى و... و... و...

ولقد استاء حسن حميد من ملاحظتي وكتب رداً طويلاً، سبقه في هذا عدنان كنفاني الذي أتبع رده الأول بثان، ودافع عن حسن حميد.

سأقرأ، وأنا أقرأ حسن حميد في "مدينة الله" سأقرأ "المسكوبية )2010( لأسامة العيسة ثانية، فقد قرأتها مخطوطة، وسألاحظ الاختلاف بين الخطوط وطبعة منشورات أوغاريت، وفي "المسكوبية" التي هي أشبه بسيرة جزئية لمناضل فلسطيني اعتقل ثمانية عشر يوماً، سأقرأ عن عالم القدس السفلي أيضاً، فالمناضل الذي زج به في المعتقل لنشاطه السياسي ويجتمع في السجن بسجناء جنائيين، دخلوا السجن بالخطأ أو لمتاجرتهم بالحشيش، فالقدس ليست مدينة بشرها أنبياء، وهذا ما أبرزه من كتب عن المدينة دون ان يعرفها، بخلاف من عرفها، خذ مثلاً قصة "أبو جابر الخليلي" لتوفيق فياض واقرأ فيها عن شارع الزاهرة ورواده.

وسأقرأ، قبل ان أقرأ حسن حميد، رواية عيسى بلاطة "عائد الى القدس" (1998)، كنت حصلت على الرواية من الكاتب سمير الحاج في مؤتمر جامعة بيت لحم 2007 وقرأتها لأنها لكاتب يقيم في المنفى، ولكنه عرف المدينة وعاش فيها قبل 1967وسأرى القدس فيها تحضر من خلال الذاكرة وما يحضر من خلال الذاكرة يكون ظلالاً، يكون أشباحاً، فقط، ستحضر بعض حارات المدينة وحياة بعض أبطال الرواية فيها، لكن القدس لن تكون محور الرواية الرئيس، علماً بأن والِ القدس حاضر في العنوان، كما ان صورة المدينة تحتل صفحة الغلاف. ومن المؤكد ان عيسى بلاطة لو عاش بعد العام 1967 في القدس، وكتب رواية عن المدينة، لكانت كتابته مختلفة كلياً، لهذا كتب في روايته عن لندن واميركا وحياة المنفى التي يحياها هو أكثر مما كتب عن القدس. غير ان المنفى هو صنو القدس، وهو الذي يجعل شخوص الرواية يفكرون في المكان الأول.

فقدان المدينة والعيش في المنفى سيجعل لها مكانة مميزة، بخاصة اذا منع المرء من العودة اليها ولم يعش مرتاحاً في المنفى، هل اختلفت رواية واسيني الأعرج "سوناتا لأشباح القدس" )2009( عن رواية عيسى بلاطة، الفرق بين الاثنين ان الاول كاتب روائي محترف، خلافاً للثاني الذي لم يصدر سوى رواية واحدة، والفرق بين الاثنين ان الأول جزائري والثاني من القدس، وقد أثير السؤال نفسه الذي أثرته وأنا أقرأ حسن حميد الذي لم يزر القدس ويعرفها: ما الذي يدفع واسيني الأعرج لأن يكتب رواية عن مكان لم يزره ولم يقم فيه؟

واسيني الأعرج كتب عن مقدسيين يقيمون في المنفى، حتى اللحظة لا أعرف مدى صلته بهم، وعلام اعتمد وهو يكتب عنهم، هل قابلهم؟ هل حصل على مذكراتهم؟ هل قرأ مخطوطات ما كتبوها وصاغها روائياً؟ وهل تختلف كتابته عن كتابة حسن حميد؟

عنوان الرواية "سوناتا لأشباح القدس"، ولا يحضر من المدينة، لا بقاياها في ذاكرة من تركوها، واضطروا لأن يعيشوا بعيداً عنها، فغيروا اسماءهم، خوفاً من ملاحقة عصابات الهاغاناة لهم، لدورهم في النضال في العام 8491.

مي الحسيني الفنانة التشكيلية تغادر المدينة مع أبيها حسن، وهي في الثامنة من عمرها، في العام 1948 وتقيم في نيويورك، وتظل أشباح القدس تلاحقها: البعد عن أمها، علاقتها بأقاربها، معرفتها المتأخرة لما فعلته الهاغاناة بأمها الحامل، حيث قتلتها بقسوة، طفولتها في القدس و... و... قسوة المنفى، ووحشية العالم بعيداً عن المكان الأول، لكأن الرواية رواية المنفى التي لم نكتبها، ورواية القدس وخسارتها وما نجم عن ذلك أيضاً.

وسأرى في الرواية جدارية محمود درويش مكتوبة نثراً، فمي تصاب بالسرطان وتعاني منه، ويكتب واسيني الأعرج عن حالتها ما كتبه درويش عن حالته شعراً.

ربما تبدو رواية علاء حليحل "مقدسية أنا" التي قرأت مخطوطتها يوم حكمت روايات مسابقة القطان للعام 2009 من روايات القدس بامتياز هنا الطوائف والاثنيات ومعاناة أهل القدس المحتلة من الاحتلال، وهنا العرب واليهود في علاقاتهم اليومية، هنا التعدد اللساني أيضاً، التصور اللساني الذي هو خصيصة من خصائص الرواية كما كتب عنه (ميخائيل باختين)، وستكون رواية "مقدسية أنا" رواية قدس، ومثلها رواية ابن قرية دير الغصون التي تقرأ فيها عن التعدد الديني في المدينة القديمة.

هل قلت كل شيء في رواية القدس؟ أظنني قلت شيئاً وغابت عني أشياء وأنا لا أدعي في العلم فلسفة.




الايام الفلسطينية
تاريخ نشر المقال 01 آب 2010