أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأحد، 24 يناير 2010

حسيب صباغ

حسيب صباغ: رجل العطاء بسخاء للوطن والإنسان

 بقلم: جوني منصور*

 رحل نهاية الأسبوع الماضي المُحسن الفلسطيني الكبير حسيب صباغ عن شيخوخة صالحة، بعد أن أمضى عمرًا مديدًا مليئًا بالنشاط والتضحيات والصعوبات والعراقيل التي تخطاها بهدوء ومحبة. وما حسيب الصباغ إلا رجل من رجالات فلسطين الأشداء والملتزمين بحب الوطن وخدمة الإنسان الفلسطيني والعربي أينما كان، من منطلق تمسكه بالقيم الإنسانية الراقية والرائعة. حول حسيب صباغ يدور مقالنا القصير هذا، مبينين دوره ومساهمته وأفضاله في خدمة أبناء شعبه. وشارحين مكانة حيفا في انطلاقته الأولى. • النور في طبريا والتنشئة في صفد

رأى حسيب صباغ النور في عام 1920 في طبريا. إلا أن العائلة في أصلها صفدية. فنشأ في بيت ذي جذور ضاربة في خدمة الوطن وإنسان هذا الوطن. أحد أجداده هو ابراهيم الصباغ الذي اشغل منصبًا إداريًا في حكومة ظاهر العمر شيخ الجليل في منتصف القرن الثامن عشر. وكانت لابراهيم الصباغ كلمة نافذة في ديوان الشيخ ظاهر.كما أن عددًا من أفراد عائلته أشغل مناصب إدارية مختلفة عبر العصور اللاحقة. ومنهم من أشغل منصب قنصل عام فرنسا. فجده حبيب كان قنصلاً في صفد، وعمه توما قنصلاً في صفد وطبريا، وقريبه يوسف قنصلاً فخريا. وكان للعائلة في صفد شبكة علاقات رفيعة المستوى مع قيادات الطائفة التي انتمت اليها، ألا وهي طائفة الروم الكاثوليك، حيث اعتاد المطران غريغوريوس حجار النزول ضيفًا كريمًا لدى عائلة صباغ في صفد، وكذا فعل المطران حكيم. واستمرت الصداقة والعلاقة بين حسيب والمطران حكيم بعد أن نُصّب الأخير بطريركا في لبنان في عام 1968. • الدراسة بين صفد والقدس وبيروت تلقى حسيب صباغ دروسه الابتدائية في المدرسة الكاثوليكية في صفد، بينما إخوته تعلموا في المدرسة الاسكتلندية (بإدارة مستر سمبل والتي تم نقلها لاحقًا أثناء الثورة الفلسطينية إلى حيفا). وظهرت نجابته في المدرسة، وكذلك ظهرت عليه علامات الاهتمام الاجتماعي بالمحتاجين، خاصة أبناء العائلات الفقيرة والمحتاجة من صفد وقراها. فكان ينفق على بعض منهم بعض المال الذي توفر له من توفيراته. ثم أرسلته العائلة لمتابعة دراسته في الكلية العربية في القدس والتي كانت تحت إدارة المربي والمفكر احمد سامح الخالدي. وفور نجاحه في امتحانات المتريكوليشين أوفدته المدرسة إلى الجامعة الاميريكية في بيروت ليدرس فيها الهندسة المدنية. وأنعشته الحياة الجامعية كثيرًا، إذ وفرّت له مساحة واسعة من الاطلاع على الحياة السياسية وبلورة فكره السياسي، خاصة القومي العروبي، وذلك بتأثير تعاليم مؤسس وزعيم الحزب القومي السوري أنطوان سعادة. كما أنه اطلع على تعاليم خالد بكداش أحد زعماء الحزب الشيوعي، وتعاليم العروبي قسطنطين زريق والبعثي ميشال عفلق. كل هؤلاء تركوا بصماتهم عميقًا في قلب وعقل حسيب. وشارك حسيب مع زملاء له في عدد كبير من المظاهرات المناوئة لفرنسا والاستعمار الاوروبي، وذلك فور اندلاع الحرب العالمية الثانية. وبسبب اشتداد حالة التوتر والهيجان في صفوف طلاب الجامعة الاميركية في بيروت، قررت إدارة هذه الجامعة تقليص السنة الدراسية في عام 1941، ومنح طلابها المشرفين على إنهاء دراستهم شهادات الإنهاء، وكان من بين هؤلاء حسيب صباغ. وأقفلت الجامعة أبوابها ريثما تتوقف الحرب. • إلى حيفا عاد من بيروت، وما أن وطأت قدماه بيت والديه في صفد حتى باشر حسيب في البحث عن عمل. والسنة التي وصل فيها أرض الوطن هي 1941، والحرب العالمية الثانية في أوجها. إلا أن فلسطين قد شهدت نشاطًا اقتصاديًا مكثفًا وواسعًا، حيث أن الحكومة البريطانية قد وفرت أماكن عمل لشرائح واسعة من العمال لحاجتها إلى المجهود الحرب في منطقة الشرق الاوسط. وهكذا، غدت حيفا المعروفة بـ "مدينة العمل" إلى ورشة كبيرة من المصانع والمحلات والمصالح التجارية والانتاجية، ووفد إليها عددٌ كبير من العمال العرب من مختلف أنحاء الشرق، إضافة إلى مناطق فلسطين المختلفة. أضف إلى أنها ـ أي المدينة ـ قد وفرت حيزا من لحياة الاجتماعية والثقافية النشطة للغاية. فقرر حسيب أن يُجرب حظه في الحصول على وظيفة حكومية، فتوجه إلى دائرة التوظيف لاحكومية في القدس ولكن مديرها رده خائبًا. إلا أن الرجل لم ييأس مطلقًا فقرر أن يجرب حظه في دوائر أخرى فعرضوا عليه وظيفة بأجر بخس فرفضها. فتوجه إلى تل ابيب باحثًا عن وظيفة، وتعرض لنفس التجربة السابقة. عندها كان قراره الحازم ألا يعمل في القطاع العام والرسمي مطلقًا. وصل إلى حيفا، وحصل على وظيفة في مكتب المهندس احمد فارس. واتخذ حسيب من إحدى غرف هذا المكتب موقعًا لنومه ليلاً لعدم توفر مكان لذلك، ولاهتمامه بانجاز الأعمال المطلوبة منه في أسرع وقت ممكن. واتسعت أعمال المكتب فاقترح عليه صاحبه أن يشاركه العمل، فمن أين لحسيب المبلغ لذلك؟ اقترض من قريب له في حيفا ودفع حصته. إلا أنه تبين له بعد عام من الشراكة أن تكاليف ومصاريف المكتب والشركة كانت باهظة للغاية حتى انه لم يربح شيئًا. فقرر ترك الشركة وفض حصته منها. ولما طالب بإعادة حصته أعلمه صاحب الشركة أن لا حق له لكونه قرر تركها بنفسه. وهنا كان قراره القاطع بألا يكون موظفًا في القطاع العام، وألا يعمل في شركة خاصة موظفًا أو شريكًا صغيرًا، إنما أن يؤسس شركة مستقلة هو مالكها. • نحو بناء شركة اتحاد المقاولين نصحه صديقه المحامي محمد زايد أن يدخل معترك المصالح والعمل التجاري، وخاصة تقديم الاستشارة لبيع وبناء البيوت والعقارات، وكانت هذه آخذة بالازدياد في حيفا ومنطقتها مع انتهاء الحرب العالمية الثانية. وبدأ حسيب يعمل مستشارًا اقتصاديا للعقارات والبيوت والمبادرات الإنشائية لعدد من المحامين المشهورين في تلك الفترة في حيفا، من أبرزهم: محمد اليحيى(أصله من الطنطورة)، وصبحي الخضرا (من زعماء صفد والحركة الوطنية الفلسطينية) واحمد الشقيري(الأخير سيقوم بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في 1965). ولما استقرت أحوال حسيب صباغ المالية وتوفر في جيبه مبلغ من المال وقد كسب خبرة واسعة في مجال عمله، وبنى له علاقات وطيدة مع شخصيات بارزة في حيفا والمنطقة، بادر إلى الالتقاء مع سمعان قشقوش ومحمد علي دلول وهما من شباب حيفا الطلائعي والنشيط، فكانت نتيجة ذلك الاتفاق تأسيس شركة اتحاد المقاولين وعُرفت بالانجليزية Consolidated Contractors Company (CCC) . وكان العقد الأول لهذه الشركة بناء مائة شقة سكنية بمبادرة من بلدية حيفا لجنود يهود مسرحين من الجيش البريطاني في حيفا. وتم انجاز المشروع في سنتين، وهذا ما منح الشركة مكانة واحتراما في أوساط المؤسسات الرسمية والشعبية العامة في حيفا وبقية أرجاء فلسطين. وفازت الشركة بعطاء كبير في عام 1947 وهو بناء مقر كبير لشركة بترول العراق في حيفا (IPC) إلا أن أحداث النكبة الفلسطينية في عام 1947 حالت دون انجازه. • النكبة لم توقفه عن متابعة المسيرة خسر كل ما كان قد أنجزته الشركة في حيفا، إذ اضطر إلى مغادرة المدينة التي ساهمت في تأسيسه وتعميق قدراته، فوصل إلى بيروت ومنها بدأ بتأسيس شركة أخرى للعمل في حقول النفط والإنشاء في العراق. إلا أنه رأى أن يُعيد تفعيل الشركة التي أسسها في حيفا بالشراكة مع قريبه وزوج أخته سعيد توفيق الخوري، وهو من صفد أيضًا، وانضم إلى الشركة معهما كامل عبد الرحمن وهو من أهالي حيفا، وأشغل منصب رئيس غرفتها التجارية، وهو عمليًا آخر رئيس لهذه الغرفة قبل سقوط المدينة. وهكذا التقى الفلسطينيون الثلاثة ليعيدوا نشاط الشركة في قطاعات الإنشاء والنفط، خاصة الغاز. • مشاريع في كل البلاد العربية والاجنبية تمكنت شركة حسيب صباغ من الفوز بعدد كبير من العطاءات في العراق واليمن وقطر والبحرين وأبو ظبي، وأقامت مجموعة كبيرة من المشاريع العمرانية وبدأت الأموال تتدفق على حسابات الشركة، وغدت إحدى أكبر الشركات العربية بل العالمية في قطاع الاستثمار والإنشاء. ولما اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975 نُقلت مكاتب الشركة إلى لندن أولاً ثم إلى اثينا حيث انتقل إليها كل من حسيب صباغ وشريكه سعيد الخوري. وقرر شريكهما كامل عبد الرحمن بيع حصته لهما في العام 1976 وإنهاء مساهمته في هذا القطاع. ومن ثم توسعت مجالات عمل الشركة فوصلت إلى بريطانيا والولايات المتحدة وكندا. وفقدت الشركة كثيرًا من اسهمها جرّاء الاجتياح العراقي للكويت في العام 1990، ونقلت مصالح ومكاتب الشركة إلى السعودية. ومن هناك تابعت الشركة نشاطاتها الإنشائية في قطاع البترول. كما أن الشركة ساهمت في اعمار مطار بيروت الدولي بعد أن انتهت الحرب الأهلية في لبنان. • حسيب صباغ والنشاط الوطني الفلسطيني لم يقتصر اهتمام حسيب صباغ على تطوير شركته ورفع مستوى أدائها وأرباحها، إنما كانت له هموم أخرى وفي مقدمتها الهم الفلسطيني. فهو ابن الحركة القومية العربية، والمسيحي ابن الجليل الذي كان يعرف جيدا كيف يوفق بين مسيحيته وفلسطينيته وقوميته، والثري الذي جاهد بقواه الذاتية وبدعم من عائلته إلى جني ثروة مالية هائلة(يعتبر حسيب صباغ من مجموعة الأثرياء العشرين الأوائل في العالم العربي، حيث بلغت ثورته في العام 2008 حوالي أربعة مليارات ونصف دولار، أما شريكه سعيد الخوري فبلغت ثورته قرابة سبعة مليارات دولار)، لم تغب فلسطين عن عينيه وفكره وقلبه. فبادر إلى مساعدة منظمة التحرير الفلسطينية. وبنى علاقات قوية مع ياسر عرفات، وأصبح عضوًا في المجلس الوطني الفلسطيني، ووسيطًا بين ياسر عرفات والحكومة اللبنانية في أحلك ساعات عاشتها المنظمة ومقاتليها البواسل. واتصل بالجهات السياسية الامريكية لوقف الاجتياح الاسرائيلي، ولما لم يتم ذلك، عمل مع آخرين على تسهيل خروج قيادة المنظمة من لبنان إلى تونس في عام 1982. • مشاريع المحبة والعطاء مد حسيب صباغ يده بسخاء لدعم مؤسسات وجمعيات فلسطينية وعربية وعالمية تسعى من اجل خدمة الانسان. وفلسطين أولاً، حيث وفر مساعدات لعدد كبير من مؤسسات الوطن والمخيمات، كما أنه ساعد مؤسسات لبنانية. وأسس "مركز التفاهم الاسلامي ـ المسيحي" للدراسات في جامعة جورج تاون في الولايات المتحدة.وأقام مؤسسة "ديانا تماري"(على اسم زوجته الراحلة) وخصص واحد بالمائة من أرباح شركته لهذه المؤسسة التي رعت مشاريع كثيرة، من أبرزها دعم المؤسسات الخيرية والثقافية والاجتماعية في فلسطين ولبنان على وجه الخصوص. وساهم حسيب صباغ بدعم مشروع الإسكان الكبير في بيت حنينا والذي بادرت إليه النيابة البطريركية للروم الكاثوليك في القدس بهدف توفير سكن لفلسطينيي القدس للحيلولة دون هجرتهم خارج الوطن. كما أنه ساهم في دعم مشروع مركز مكسيموس حكيم في عبرا ـ شرقي مدينة صيدا للخدمات الاجتماعية. وكان إلى جانب نشاطه الخاص في شركته وإدارتها عضوًا في عدد كبير من المؤسسات الاقتصادية والفلسطينية والجامعات في الولايات المتحدة الامريكية. ونال صباغ عددًا من الأوسمة تقديرا لدوره الإنساني والوطني الرائد. ووفر حسيب صباغ مئات المنح الدراسية للفلسطينيين واللبنانيين وساهم في بناء عدد من المؤسسات، ومنها على سبيل المثال: مركز حسيب الصباغ للتميز في تكنولوجيا المعلومات في الجامعة العربية الامريكية في جنين، مساكن لطلاب جامعة فلسطين التقنية في طولكرم(وتعرف بـ "خضوري")، ومدرسة حسيب الصباغ في نابلس، ومستشفى حسيب الصباغ في رام الله وهو قيد الإنشاء عند مدخل رام الله، وقاعة حسيب الصباغ في الجامعة الامريكية ببيروت، وغيرها كثير. وأشغل عددًا من المناصب الإدارية والشرفية، ومنها: نائب رئيس مجلس إدارة مؤسسة التعاون في جنيف، ورئيس مجلس إدارة صندوق الطلبة الفلسطينيين، وعضوا في البنك العربي، وجامعة هارفرد ومؤسسة الدراسات الفلسطينية. • العودة إلى حيفا رغم أمراض الشيخوخة التي أصابته، وفقدانه لزوجته وهي صغيرة السن، إلا أنه قرر زيارة حيفا بصفة شخصية، في العام 2000، حيث شارك في صلاة جناز السيد المسيح في كاتدرائية مار الياس للروم الكاثوليك في حيفا، والتقى بالمطران بطرس معلم، رئيس اساقفة عكا السابق، في ديوان الكنيسة وعبر عن حبه لحيفا والجليل والوطن. وكأنه بهذه الزيارة يقفل دائرة عمره، ويفي بدين للمدينة التي احتضنته شابًا يافعًا طموحًا، ووفرت له مساحة كبيرة من تأسيس شركته التي ما تزال تعمل إلى يومنا هذا. • بعيدا عن تراب الوطن رحل حسيب صباغ بعد حياة مليئة بالعمل والعطاء والتضحية. رحل بعيدًا عن الوطن الذي أحب، ليوارى الثرى في وطنه الثاني "لبنان" الذي أحبه كثيرًا. وتم تشييع جثمانه في كنيسة الروم الكاثوليك في بيروت بمأتم رسمي حضره عدد كبير من رجال الدولة في لبنان وعلى رأسهم رئيس الوزراء ووزراء ولفيف من رجال الدين، وحضر وفد من فلسطين برئاسة حنان عشراوي وممثلي منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، إضافة إلى عائلته وأصدقاء المرحوم. تعازينا الحارة إلى آل صباغ في حيفا والوطن، ورحم الله حسيب صباغ الذي رحل واقفًا كالزيتونة مغروسًا بأمل العودة. • د.جوني منصور ـ مؤرخ ومحاضر مقيم في حيفا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق