أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأربعاء، 23 أبريل 2008

ميشيل صباح..بطريرك الفلسطينيين



عندما أصبح ميشال صباح، بطريرك الكنيسة اللاتينية في الأراضي المقدسة، وكأول عربي يتبوأ هذا المنصب الرفيع، قبل نحو عشرين عاما، وعاد إلى منزله العائلة في مدينة الناصرة، أطلقت والدته، مثل أية ام فلسطينية فرحة بابنها، زغرودة مجلجة، والان يحظى صباح الذي يودع منصبه، بزغاريد عديدة في الاحتفالات التكريمية، التي تنظم له، بعد أن اصبح رجل الدين الفلسطيني، الأكثر احتراما، من بين عدد لا يمكن إحصاءه من رجال الدين المسلمين والمسيحيين، في بلاد يصطبغ تاريخها، باختلاط الدين بالسياسة، بشكل لا يمكن العثور عليه في أي مكان آخر، حتى أن بعض الكتب المقدسة ما زالت معتمدة كتاريخ لها.

ووصل صباح كأول عربي فلسطيني إلى منصبه الحساس، في ظروف حساسة أيضا ليس فقط في تاريخ فلسطين، ولكن في تاريخ البطريركية اللاتينية، التي تتبع بابا الفاتيكان، الذي يقف على راس مؤسسة، كان لها مع الشرق حسابا عسيرا لم يغلق حتى الان، رغم أنها أغلقت حسابات أخرى، مثلما فعلت بتقديمها الاعتذارات للكنيسة اليونانية الأرثوذكسية، على ما اقترفه الصليبيون من مجازر مروعة. وارتبط تاريخ الكنيسة اللاتينية، في فلسطين، بالنصر الذي أحرزه الصليبيون، على الحامية الفاطمية في القدس عام 1099م، في مشهد تاريخي، ما زالت أصداؤه تتردد حتى الان في جنبات المدينة المقدسة، ويظهر في التنوع الفريد خصوصا في أوساط الطوائف المسيحية.

في تلك الأيام، كان مسيحيو فلسطين من الأرثوذكس، ومثل مسلمي المدينة، كانوا ضحية لإحدى المجازر الشهيرة في التاريخ، عندما استباح الفرسان الإقطاعيون الغربيون الذي يحملون شارات الصليب، مدينة القدس، وقتلوا اكثر من 100 ألف من سكانها، ومعلنين تأسيس مملكة القدس اللاتينية، مسيطرين على الحرم القدسي الشريف، وكنيسة القيامة، التي كان حماية القبر المقدس فيها، عنوانا لذاك اللقاء الدامي بين الشرق والغرب، والذي دام نحو 200 عام، ظهر خلالها على مسرح الأحداث شخصيات قدر لها أن تلعب ادورا تاريخيا مهمة، وكذلك ظهر مؤمنون وأفاقون ورجال دين ومجرمو حرب، وقوى عديدة ومثيرة، ومع تمكن عناصر محلية، كانت في تلك المرة المماليك، من طرد آخر الصليبيين، زال الوجود المادي للكنيسة اللاتينية ليس من فلسطين فقط، ولكن من جمع بلاد الشام.

ولكن الجانب المعنوي في المسالة ظل مستمرا، وبقي البابا يعين بطريركيا للقدس، كمنصب فخري مقره في بازيليك سان لورينزو فوري لومورا في مدينة روما. وفي ظروف مختلفة تماما، وبعد أن ساد اعتقاد واسع لدى أصحاب القرار في الغرب، بان أحلام الحروب الصليبية الحربية ولى زمنها، وانه يمكن استبدالها بحروب صليبية سلمية، وصل إلى فلسطين في عام 1847م، رجل الدين الإيطالي جوزيف فاليرجا، ليكون أول بطريرك للكنيسة اللاتينية في القدس والأرض المقدسة، وتم ذلك في ظروف دولية مواتية آنذاك، وبموافقة الباب العالي العثماني، الذي كانت تخلخله الرباح بقوة، حتى سقط نهائيا بعد ذلك.

وقدر لفاليرجا أن يلعب دورا مهما، من خلال منصبه الجديد، وسط أبناء طائفته التي كانت تكبر، ومعظمهم من العرب. وما بين عامي 1847-1987، توالى على منصب البطريرك 7 من رجال الدين الأجانب، في حين أن الطائفة العربية اللاتينية، لم تكف عن التعبير عن عروبتها ومواقفها الوطنية، وبرزت منها شخصيات قيادية عديدة في مسيرة العمل الوطني الفلسطيني الناهض في ظل الانتداب البريطاني، ولاحقا في حركة الثورة الفلسطينية المعاصرة، وامتد ذلك حتى إلى رجال الدين العرب منهم، مثل الأب إبراهيم عياد، الذي ارتبطت حياته بتاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، وتم اعتقاله في الأردن، على خلفية اتهامه بالتورط في عملية اغتيال الملك عبد الله الأول، وفي فترة المنفى كان يحلو للصحافة الغربية أن تصفه بالراهب الأحمر، لمواقفه المناهضة للاستعمار، ولتأييده لثورة الخميني، ومن خلال موقعه وسط الجاليات الفلسطينية في الخارج، أسس عدة مساجد في دول أوروبية مستغلا مكانته كرجل دين مسيحي.

واستمر الغربيون يقودون الكنيسة اللاتينية، حتى حدث ما اعتبر انقلابا، لم يكن متوقعا، وان كان أتى في وقته تماما، عندما عين البابا رجل الدين الفلسطيني ميشيل صباح، ليجلس على كرسي بطريركية القدس التي يمتد نفوذها إلى الأراضي الفلسطينية، وإسرائيل، والأردن، وقبرص. ولم يكن افضل من صباح (ولد في الناصرة في 19 آذار (مارس) 1933)، الأكاديمي والباحث والمترجم والمجاز في الثقافة الإسلامية واللغة العربية، ليكون أول عربي يجلس على كرسي بطريركية القدس، منذ اكثر من ألف عام.

وبدا كأن وصول صباح، إلى كرسي البطريركية، كأنه موعدا مع القدر، ففلسطين كانت تغلي على وقع الانتفاضة الأولى، وسط حلم فلسطيني متنام، بأنها ستكون انتفاضة الاستقلال والدولة التي طال انتظارها. وتوفرت للبطريرك الجديد، فرصة ليعبر عن توجهاته، فاعد خطابا ليلقيه، في أول قداس سيترأسه، في كنيسة المهد بمناسبة أعياد الميلاد، وهو أمر لم يكن معتادا من قبل البطاركة الذين سبقوه، وبطريقة ما وصل الخبر إلى الإسرائيليين، الذين اتصلوا بالفاتيكان، غاضبين، واصر صباح على موقفه، ردا على استفسارات الفاتيكان، ووقف على مذبح الكنيسة، ليعلن لرعيته وللفلسطينيين موقفه الرافض للاحتلال، وليتحول بعد ذلك إلى وجه معروف على الساحتين العربية والعالمية، مدافعا عن حقوق شعبه، وعاملا بدون كلل لتقصير عمر الاحتلال.

وبدا صباح كنوع جديد من رجال الدين العرب، مازجا بين خلفيته اللاتينية الغربية، وفلسطينيته العربية، فظهر منظما، وازنا لكلامه، لا يحب الصراخ، ومبتعدا عن الشعارات، مثلما يفعل الآخرون من رجل الدين الأرثوذكس وعلماء الدين المسلمين، منكبا على العمل، ومتعدد النشاطات، وشغوفا بالقراءة والبحث، مجيدا لعدة لغات.

وخطا صباح خطوة متقدمة بشان كنيسته، فهي وان كانت تتبع الفاتيكان، إلا أنها أصبحت عضوا في مجلس كنائس الشرق الأوسط، وتعرف من قبله الان بأنها كنيسة وطنية من كنائس العالم العربي تلعب دورا هاما بنقل وجهات النظر بين العالمين الإسلامي والغربي. وقاد صباح المسيرات السلمية المنددة بالاحتلال، وفي كل عام، وبمناسبة عيد الميلاد، يلتقي الصحافيين، في مقر البطريركية بالقدس، قبل توجهه إلى بيت لحم لترؤس الاحتفالات، ليقرا عليهم رسالة الميلاد، التي تؤكد على حقوق شعبه الفلسطيني.

وبعد تأسيس السلطة الفلسطينية، ارتبط بعلاقات وثيقة مع ياسر عرفات، أول رئيس لها، رغم التباين الواضح في شخصيتي الاثنين، واصبح عرفات يحضر قداس منتصف الليل، الذي يترأسه صباح، وعندما منعت إسرائيل عرفات من الوصول إلى بيت لحم، احتفظ صباح بكرسي له واضعا عليه كوفية عرفات الشهيرة، وقبل بذلك بأيام كان يزور عرفات في مقره، ليدعوه رسميا لحضور الاحتفالات.

وتمكن صباح من نسج علاقات واسعة مع مواطنيه المسلمين، وحظي بشعبية وسطهم، وزار عدة مواقع، من بينها مخيمات اللاجئين، واعلن في خطاب ألقاه في مخيم الدهيشة، قرب بيت لحم، بأنه هو أيضا أحد اللاجئين، وبفضله تم إدراج المخيم على قائمة الأماكن التي زارها البابا يوحنا الثاني، في زيارته التاريخية للأراضي المقدسة في عام 2000.

ولم تكن مسيرة صباح في كرسي بطريركية القدس، تخلو من منغصات أثرت على الوضع الداخلي الفلسطيني، مثلما حدث من حرق كنائس بعد تصريحات البابا الحالي بنديكتوس السادس عشر، التي فهم منها الإساءة للإسلام. وتعامل صباح مع موجة الغضب التي اجتاحت العالم العربي، والأراضي الفلسطينية، بتعقل ولكن بحزن، فهو كليبرالي، دافع عن حق البابا في قول ما يريد في محاضرته، معتبرا أن بنديكتوس السادس عشر، اقتبس كلاما من أحد الكتب، وانه تم إخراج الكلام عن سياقه، وفي الوقت ذاته نجح في تطويق أحداث حرق الكنائس في شمال الضفة الغربية، باعتبارها حوادث فردية، ولم يسمح لأية قوى باستغلالها للطعن في علاقات المسلمين والمسيحيين في فلسطين.

واعلن صباح، استغرابه، من موقف رجال الدين الأرثوذكس، الذين وجهوا انتقادات حادة للبابا، مؤكدا على أهمية تجاوز ما حدث. وخلال مسيرته الطويلة، تولى صباح مسؤوليات عديدة رفيعة محليا وعربيا وعالميا، ووضع عدة كتب، وساهم في ترجمة أعمال تاريخية واثرية، وله جهد أكاديمي من خلال ترؤسه لجامعة بيت لحم. وبمناسبة بلوغه الخامسة والسبعين، وهي سن التقاعد الكنسي، غادر صباح الكرسي الاورشليمي، الذي جلس عليه، بطريركا لطائفة واحدة، وتركه "بطركا" لجميع الفلسطينيين، مسلمين ومسيحيين، كما يسمونه، وليتفرغ لاعماله البحثية والفكرية، تاركا خلفه على الكرسي الأب فريد الطوال وهو ابن لعائلة أردنية لاتينية، ليصبح ثاني عربي يجلس على الكرسي.

وقبل مغادرته كرسي البطريركية وجه صباح رسالة للفلسطينيين، مؤكدا على الأسلوب النضالي الذي آمن به "مثل كل الفلسطينيين علينا أن ندفع الثمن لاسترجاع حريتنا السياسية والاقتصادية والدينية وذلك من خلال مقاومة تدخل في منطق المحبة، مقاومة غير عنيفة". وردا على سؤال لايلاف حول جدوى هذه المقاومة السلمية، في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية الطاغية، قال صباح بان الطرق السلمية في مواجهة الاحتلال لم تجرب بشكل واسع حتى يتم الحكم عليها بأنها فشلت.
http://www.elaph.com/ElaphWeb/Politics/2008/4/324006.htm

هناك تعليق واحد: