أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأحد، 27 يناير 2008

جورج حبش: الحكيم الذي لم يكن حكيما

بهدوء لا يتناسب مع حياته الصاخبة رحل الدكتور جورج حبش، مؤسس حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في العاصمة الأردنية عمان. ومنذ سنوات اختار حبش الإقامة في عمان، التي ناصب نظامها العداء لسنوات طويلة، لكنه لم يجد افضل منها مكانا، ليقضي بقية حياته فيها، بعد أن استقال من منصب الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ويمكن ان يمثل رحيله في عمان معنى رمزيا لمسيرته من زعامته لاكثر التنظيمات الفلسطينية الماركسية راديكالية، الى وفاته في احد معاقل الانظمة المعتدلة التي كان يقول بانها بينه وبينها "بحر من الدماء".

ويمثل حبش في حياته مسيرة جيل ليس فقط من الفلسطينيين، ولكن من العرب، وجد نفسه قبل ستين عاما، في مواجهة بدت قدرية إلى حد بعيد، مع الغزوة الصهيونية التي تحولت إلى واقع في فلسطين، على شكل دولة، ونتج عنها ما يسمى في الأدبيات الفلسطينية والعربية النكبة. 


في تلك الايام، كان حبش، طالبا في الجامعة الأميركية في بيروت، وتأثر بأستاذه قسطنطين زريق، أحد منظري القومية العربية، ومثله وجد في الجامعة عدد من الشبان من مختلف الدول العربية مثل الدكتور احمد الخطيب من الكويت.


وبادر حبش إلى تأسيس حركة القوميين العرب، وكانت حركة مؤثرة، امتد نفوذها إلى عدة دول عربية، ولكنها حركة شابها الكثير من عيوب الحركات القومية المتناحرة في ذلك الوقت، والتي كانت شغوفة بالاختلاف، حتى في ترتيب الشعارات مثل أيهما انسب (الوحدة طريق تحرير فلسطين) أم أن (تحرير فلسطين هو الطريق إلى الوحدة)، وفي النهاية لم تتحقق الوحدة ولم تتحرر فلسطين.


وفيما بعد تصدى كثير من ناشطي حركة القوميين العرب إلى دراسة تجربتها بشكل نقدي وعلمي، وأبرزهم العراقي الدكتور باسل الكبيسي، الذي اغتاله الموساد الإسرائيلي، في أوائل سبعينات القرن الماضي في عاصمة أوروبية لنشاطه في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي أسسها الدكتور حبش على أنقاض حركة القوميين العرب.


ولم تكن مسيرة الجبهة بدون صعوبات بالنسبة لحبش الذي تحول إلى رمز لأجيال فلسطينية طالعة، ومصدر قلق لكثير من الأنظمة العربية، ليس فقط المعتدلة منها بل أيضا الثورية مثل مصر عبد الناصر.


واتسمت اطروحات حبش، ابن مدينة اللد الفلسطينية، بالذهاب بعيدا إلى أقصى اليسار، ولكن هذا لم ينجيه من انقسامات تعرضت لها جبهته، أبرزها الانشقاق الذي قاده نايف حواتمة، ونتج عنه تأسيس الجبهة الشعبية الديمقراطية التي تبنت الفكر الماركسي، والجبهة الشعبية القيادة العامة بقيادة احمد جبريل.


وسرعان ما تبنى حبش الفكر الماركسي، ولكن بتأثيرات قومية واضحة، واستقطبت الجبهة الشعبية العديد من المناضلين الاممين، في معسكراتها في الأردن، وبعضهم نفذ عمليات داخل إسرائيل، مثل مجموعة الجيش الأحمر الياباني.


وتعاون مع الجبهة في فترة من الفترة اليساري الفنزويلي كارلوس، الذي جذبه في الجبهة مثل آخرين ما اعتبرته أوساط في الجبهة نفسها، فيما بعد، مغامرات لم يكن لها ضرورة مثل عمليات خطف الطائرات. وتمكنت الجبهة بتخطيط من رفيق حبش وديع حداد، من خطف عدة طائرات ونقلها إلى ما أسمته مطار الثورة في الصحراء الأردنية، وشكل ذلك، مع عوامل أخرى إلى انفجار الوضع في الأردن بين الجيش النظامي والمنظمات الفدائية واندلاع الحرب الأهلية التي أطلق عليها أيلول الأسود.


ورغم العلاقة الوثيقة التي ربطت حبش بوديع حداد الذي كان مسؤولا عن العمليات الخارجية للجبهة الشعبية، إلا أن نضج تجربة حبش النسبي، أدى إلى فراق، وتم فصل حداد من عضوية الجبهة، بعد أن قوي في الجبهة تيار رأى في عمليات خطف الطائرات مضرا بالمصلحة الوطنية الفلسطينية.


ولكن ذلك لم يشكل قطيعة بين الجبهة وحداد، الذي اغتيل بالسم في العاصمة العراقية بغداد، فيما بعد، وينظر إليه الان من قبل العناصر الجديدة في الجبهة التي تبحث عن رمز، بأنه أحد رموزها الكبيرة، وتسعى لنشر تراثه.


وقاد حبش علاقة الجبهة الشعبية مع فصائل منظمة التحرير وخصوصا حركة فتح، في كثير من المرات بتشنج، وذهب إلى القطيعة معها إلى ابعد حد، وتزعمت الجبهة في كثير من المرات ما أطلق عليها جبهة الرفض، أو جبهة الصمود، وكانت تضطر في كل مرة إلى العودة إلى حظيرة المنظمة التي تهيمن عليها فتح، ويغرق حبش في احضان ياسر عرفات الذي لم يكن يبخل بالقبل عليه او بالالقاب مثل (حكيم الثورة).


وأوخذ على حبش أيضا قيادته للجبهة الشعبية بقبضة حديدية، ولكنه أعلن استقالته من منصب الرجل الأول في الجبهة، ليشغل هذا المنصب أحد اقرب المقربين له وهو أبو علي مصطفى.


ورغم استقالة حبش المعلنة، إلا أن الاعتقاد كان بأنه استمر في الإمساك بالمفاصل الرئيسية في عمل الجبهة، ولكن الجبهة نفسها تراجعت قوتها بشكل كبير، مع سقوط الاتحاد السوفيتي السابق، وقطعها مسيرة طويلة من التقلبات السياسية والفكرية، فمن رفعها لشعار تحرير كامل التراب الفلسطيني، وتخوين كل من يرفع شعارات اقل من ذلك، إلى قبولها بالبرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الذي ينص على قيام دولة فلسطينية في حدود عام 1967، واخيرا من معارضتها لاتفاق أوسلو وتخوين موقعيه، إلى عودة عدد من قيادتها وفق هذا الاتفاق، بعد سنوات.


أما في المجال الفكري، فتبنت الجبهة الماركسية على الطريقة الماوية، وناصبت الاتحاد السوفيتي العداء، ثم عادت ونسجت علاقات وثيقة مع موسكو عندما كانت الأخيرة حمراء، ومع حلفائها من دول المعسكر الشرقي.


وخلال مسيرته الطويلة، فان "الحكيم" كما يطلق عليه محبوه، فقد الكثير من رفاق الدرب، مثل غسان كنفاني، الذي اغتالته اسرائيل، ووديع حداد، لتطرفه، وبسام أبو شريف الذي تم فصله بعد أن شارك مع ياسر عرفات في رفع المقاطعة العربية عن مصر، بعد كامب ديفيد، ومصافحة الرئيس مبارك، وأبو علي مصطفى الذي تم اغتياله بعد عودته الى ارض الوطن واراد ان يلملم قواعد الجبهة.


وقدر لحبش، في سنواته الأخيرة، أن يرى صعودا للجيل الشاب في قيادة الجبهة، وتمثل ذلك، بانتخاب احمد سعدات أمينا عاما للجبهة، والذي يمثل بشكل أو بآخر كوادر الجبهة في الداخل الفلسطيني، ولكن انتخاب سعدات كشف على الأقل عن تيارين في الجبهة، الأول الذي يمثله سعدات وهو الأكثر راديكالية وصدقا وإخلاصا وقربا إلى قواعد الجبهة، والثاني يمثله نائب أمين عام الجبهة عبد الرحيم ملوح المحسوب على الحرس القديم في الجبهة الذي كان يرفع الشعارات المتطرفة واصبح الان مستعدا للتساوق مع قيادة منظمة التحرير التي طالما أطلق عليها صفة "القيادة اليمينية".


وفي كل هذا المشهد، كان أول من ترك الجبهة في محطاتها الأخيرة، بعد تخلي حبش عن منصب الرجل الأول فيها، الكثير من كوادرها، والذين لجاوا مثل باقي الكوادر اليسارية إلى المنظمات غير الحكومية الممولة أجنبيا، في عملية نزوح من قبل هذه النخب للارتماء في أحضان طرف آخر طالما ناصبته العداء.


وبعد اعتقال سعدات واخرين من المكتب السياسي مثل محمود فنون، والضربات التي تعرضت لها الجبهة، لم يبقى في صدارة المشهد إلا بعض أعضاء المكتب السياسي المقيمين في دمشق مثل ماهر الطاهر المقرب لحبش، وعبد الرحيم ملوح في رام الله، واخرين في غزة، وما يفرق هؤلاء اكثر بكثير مما يجمعهم، مما جعل البعض يقول بان حبش ودع الدنيا وهو يرى بان ما زرعه، مهدد بالفناء، مثلما يحدث في كل الحركات التي تخلط بين الاخلاص والمغامرة والتهور.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق