أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الاثنين، 24 ديسمبر 2007

ساحة المغامرة والأساطير ودرب من مروا الى السماء

تحتضن ساحة المهد في مدينة بيت لحم الزاخرة بالرموز، احتفالات أعياد الميلاد هذا العام، التي تبدو فيها المدينة مختلفة عن الأعوام السابقة، بسبب رغبات محلية ودولية لإبراز هذه الأعياد. وتقع الساحة بين كنيسة المهد، التي ولد السيد المسيح، في أحد مغارها، وفي المقابل يقع مسجد عمر بن الخطاب، وهو أحد المساجد الكثيرة الموجودة في فلسطين ويطلق عليها المساجد العمرية، نسبة إلى الخليفة الإسلامي الراشدي الثاني الذي تسلم مفاتيح مدينة القدس سلما لدى فتحها من قبل العرب، ورفض أن يصلي في كنيسة القيامة، وصلى خارجها في المكان الذي يعرف باسم مسجد عمر.وتنتشر المساجد العمرية في فلسطين بالقرب من الكنائس، كرمز على ما يطلق عليه الفلسطينيون الإخاء الإسلامي-المسيحي، الذي تجسد كما يقولون في العهدة العمرية، التي منحها عمر بن الخطاب لمسيحيي فلسطين.ويعلق مسلمون ومسيحيون نسخا من هذه الوثيقة في منازلهم ومحلاتهم وكنائسهم ومساجدهم، وبالنسبة إلى زائري بيت لحم فإن وجود كنيسة المهد ومسجد عمر المقابل لها، يثير بعض المشاعر الرمزية والعاطفية.

وفي بداية تأسيس السلطة الفلسطينية، أقام رئيسها الراحل ياسر عرفات، في القسم المخصص للروم الأرثوذكس في كنيسة المهد، وكان يقطع الساحة ليؤدي الصلاة في مسجد عمر، ويؤدي رئيس السلطة الفلسطينية الحالي محمود عباس (أبو مازن) الصلاة في مسجد عمر، قبل أن يتوجه إلى كنيسة المهد لحضور قداس منتصف الليل الذي ينقل في بث مباشر لأنحاء العالم.

وتعتبر الساحة هي مركز البلدة القديمة في بيت لحم، الزاخرة بالتاريخ، وهي مقامة على ارث هائل من الآثار التي تركتها الحضارات والشعوب المختلفة التي مرت على فلسطين، وكانت تظهر بقاياها لدى أعمال ترميم الساحة الذي تم مرارا وتكرارا.

واخر ترميم لها، كان عشية الألفية الثانية لميلاد المسيح، حيث دعمت الدول المانحة بسخاء مشروعا لإعادة تأهيل ساحة المهد، التي تزيد مساحتها عن خمسة دونمات (الدونم 100 متر مربع)، تحضيرا لاحتفالات الألفية، ولكن بدلا من الاحتفال اندلعت موجة عنف دموية أطلق عليها انتفاضة الأقصى، وسقط في الساحة العديد من الفلسطينيين ومن ضمنهم عدد من الأطفال، وفي مرحلة لاحقة احتل الإسرائيليون الساحة وحاصروا كنيسة المهد اكثر من أربعين يوما.

والترميم الأخير للساحة، من تصميم مهندس سويدي فاز في مسابقة عالمية لهذه الغاية، ونفذها مقاولون محليون.وبموجب التصميم تم تبليط الساحة بحجر اصفر مستخرج من محاجر في صحراء النقب، جنوب فلسطين التاريخية.وتم تشكيل الحجر على يد مهنيين معروفين باسم (الدقاقون) حيث شكلوا النقشة المعروفة باسم (دقة نقر) على الحجر، و هي دقة مشهورة في فلسطين وتستعمل خصوصا في نابلس، ولأنها "دقة قديمة"، تمت الاستعانة بمهنيين قدامى دربوا آخرين وتم في النهاية وضع التشكيل على الحجر.

وتم اختيار المواد المستعملة في الساحة لكي تعمر طويلا طويلا جدا، مثل حديد السكب لحماية الأشجار المزروعة في الساحة، وكذلك خشب (التيك) للمقاعد في الساحة فهو خشب مشهور ومكفول لمدة مئة عام، واستورد هذا الخشب خصيصا من تايلند وتم تنفيذ المقاعد في فلسطين على يد نجارين محليين وفق تصميمات خاصة روعي فيها مثلا عدم بروز أي برغي خشية العبث، وثبتت المقاعد بالأرض حتى لا يتم تحريكها.

أما اللمبات الكهربائية على الأعمدة فاستوردت من السويد وتنبعث منها إضاءة "رومانتيكية"، وتختلف عن نظام إضاءة الساحة أثناء الاحتفالات.
ولسبب ما اختار المصمم السويدي شجر الجميز ليزرع في الساحة، وليس الزيتون وهو رمز فلسطيني شهير، وتمت زراعة هذه الأشجار خصيصا في إسرائيل للمشروع وتم جلبها للساحة.

ويعتقد البعض أن المهندس السويدي اختار شجر الجميز لانه دائم الخضرة، ولانه يكبر ويرتفع، وكي تحجب هذه الأشجار منظر العمارات المجاورة عن الساحة، ولارتباط الجميز بقصص بعض الأنبياء في الكتاب المقدس ولكن بعد سبع سنوات لم تكبر هذه الأشجار وليست دائمة الاخضرار. وتم وضع تشكيلات من الحجارة الكبيرة والمنفذة بعناية في أرجاء الساحة بينما يقطر منها الماء، ورغم المنظر الجمالي لها إلا أن أحدا لا يعرف الغاية التي جعلت المصمم السويدي يدرجها في التصميم.

وتم إغلاق الطرق المؤدية إلى الساحة بأعمدة متحركة، وهناك طريق جانبي يحيط بالساحة تنتصب على جانبيه الأعمدة الصغيرة وهو مخصص لمرور المواكب الرسمية، واستخدم خلال الفترة الماضية لغايات تتعلق بالاحتفالات الدينية وحضور عرفات وأبو مازن احتفالات أعياد الميلاد الأخيرة. وبجانب الساحة ارتفع مبنى كبير هو مركز السلام الذي بني مكان مركز الشرطة القديم والذي كان يشوه الساحة، وان كان مبنى السلام ذو تصميم جميل إلا أن عدم وجوده كان سيوسع الساحة ويجعلها تشرف على فضاءات مفتوحة تمتد إلى الجبال المحيطة.

يقول المهندس سلام هلال الذي شارك في تنفيذ مشروع الساحة "قيمة الساحة مثل أية ساحة في العالم في مراكز المدن، حيث تنتشر المقاهي و المطاعم، بالإضافة إلى القيمة الدينية، وذلك باستيعابها لاحتفالات الميلاد".

و يلاحظ سلام، في حديثه لايلاف أن نقطة ضعف المشروع هو عدم وجود خطة أو إجراءات لإحياء الساحة، فالمحلات الموجودة تغلق أبوابها مبكرا، وهو ما يؤثر بالتأكيد في حركة النشاط في الساحة، ويقارن مثلا مع ساحة شهيرة هي ساحة روما، حيث يمنع أي محل من أن يغلق قبل الحادية عشرة ليلا وإذا لم يلتزم تسحب رخصته.

ولم يهنأ الفلسطينيون كثيرا بساحتهم بعد إعادة تأهيلها، بسبب الانتفاضة وإجراءات الاحتلال، ولكنهم يحاولون هذا العام إعادة مجدها الغابر كما يقولون، لانهم يعتبرونها اشهر ساحة في العالم كونها تقع في ما يسمونها عاصمة المسيحيين لارتباط المدينة بحادثة ميلاد طفل المغارة، الذي حملت رسالته إلهاما لمليارات من البشر على مدى القرون الماضية.

في هذه الساحة، ثار الفلسطينيون ضد الرومان، وولد المسيح وجاب المدن مدافعا عن المظلومين والفقراء، وهنا أريقت دماء الفاتحين والغزاة، وهنا توج ملوك وانهزم ملوك وقادة، وهنا صلى عمر بن الخطاب، في مغامرة العرب الكبرى خارج الجزيرة، ومن هنا مر الأبطال والغزاة والأفاقون والرحالة والغرباء.

ومن هنا مر النبي العربي-ص- ليحيي مهد المسيح عليه السلام، في طريقه إلى القدس، في رحلة الصعود إلى السماء. كانت هذه الساحة ساحة البطولة والمغامرة والأساطير، ودرب من مروا إلى السماء، ويحتاج الفلسطينيون إلى وقت ليس بالقليل لإعادة الاعتبار إليها.

http://www.elaph.com/ElaphWeb/Reports/2007/12/290443.htm

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق