أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأربعاء، 19 ديسمبر 2007

بانكسي في فلسطين

فوجئ صاحب محل للتذكارات الدينية، يقع على مدخل للقدس، عندما فتح متجره صباحا، بوجود لوحة كبيرة مرسومة على حائط دكانه، تمثل حمامة ترتدي سترة واقية من الرصاص، يستعد قناص لقتلها.

ورغم أن المتجر يقع قبالة برج مراقبة إسرائيلي، عادة ما يطلق جنوده النار على السائرين دون رحمة، إلا أن الفنان تمكن من رسم جداريته تحت جنح الظلام، وفي مكان حساس أمنياً.

لم يكن ذلك الزائر الليلي سوى فنان الجداريات العالمي روبرت بانكسي، الذي ظهر في فلسطين برسومات جدارية عديدة تركها على جدار الفصل الاستيطاني الذي تبينه إسرائيل، وجدران منازل اللاجئين في المخيمات، وبعض المحال التجارية.

ويعتبر بانكسي الآن ابرز فنان جرافيتي عالمي. و«الجرافيتي» فن احتجاجي خادش ومعترض على السائد، ينفذ على الجدران وفي الأماكن العامة، من دون إذن مسبق. وغالبا ما يعرض الفنان نفسه، نتيجة لذلك، إلى ملاحقات قانونية في معظم الدول.

وأحاط روبرت بانكسي نفسه ببروباجاندا، أو ربما اسبغها عليه محبوه، جعلته رغم شهرته، من دون سيرة ذاتية معروفة. ويرجح أن يكون بانكسي من مواليد بريستول أو بلدة قريبة منها، عام 1974. ظهرت رسومه الاحتجاجية لاول مرة عام 2003، على جدران مسقط رأسه، والعاصمة البريطانية، وجعلت المتابعين يطرحون أسئلة لا تنتهي عن هوية هذا الفنان المعادي للحروب والهيمنة الرأسمالية، خاصة بعد أن صور الموناليزا على جدران لندن وهي تحمل قنبلة.

وتمكن بانكسي، بموهبته الطاغية أن يعيد الاعتبار لفن الجداريات. ولا يقتصر احتجاجه على السياسات الخارجية للدول الغربية، ولكن على ما يجري داخلها أيضاً.

وحافظ بانكسي على شروط فن الجرافيتي، بمفاجأته لمتابعيه، وتعريض نفسه لمخاطر العقاب بوضع رسومه في أماكن ممنوعة، وهروبه من الصحافة، وقدرته السريعة على الاختفاء. وهكذا تمكن من الرسم في الحدائق ومحطات القطارات دون إلقاء القبض عليه.

وفي عام 2005، ظهرت رسوم بانكسي على مقاطع من الجدار العازل الذي تبنيه إسرائيل، وكان ذلك مناسبة لكشف المزيد عن آرائه، وهو ما كان عبر عنه خصوصا في دول يعارض سياستها مثل بريطانيا والولايات المتحدة. وتمكن من التسلل إلى متاحف وأماكن مرموقة في هذه الدول، والخروج دون أن يلحظه أحد تاركا بصماته الاحتجاجية، والطريفة. وعندما اكتشفت إدارة المتحف البريطاني أن المتسلل الذي ترك لوحاته هو بانكسي، ضمتها إلى مقتنياته، ومنحته قناة «أي تي في» البريطانية، في مايو الماضي، جائزة أعظم فنان يعيش في بريطانيا. لكن بانكسي لم يحضر لتسلم جائزته.

واغدق عليه محبوه، ومعظمهم من الشبان المتململين من الأمركة والعولمة عدة صفات مثل «الفنان المراوغ»، و«فنان حرب العصابات» و«الفنان الغامض». ومن اجل المحافظة على هذه الصفات، يستخدم أساليب تجعله يضع رسومه على الجدار ويترك المكان بسرعة، وهو ما فعله في فلسطين في شهر ديسمبر الجاري، في عودة جديدة مفاجئة إليها، ولكن هذه المرة بدا مصرا ان تكون اكثر لفتا للانتباه، وزخما.

وفي عمله الجديد في فلسطين، الذي يثير اهتمام متابعيه، اشتغل بانكسي بمساعدة اثنين، أحدهما فنان محلي، وشخص آخر مهمته التقاط الصور له، التي يوزعها بانكسي لنفسه ولا يظهر فيها وجهه أبدا.

وبعد تحقيق قامت به «الشرق الأوسط» تبين أن الخطوة الأولى في رسم الجدارية بالنسبة لبانكسي، هي تحضير الأرضية بلون معين، ويتم ذلك سريعا جداً تفادياً لضبطه، ثم يضع على الحائط كرتونة وضع عليها رسمته مسبقاً وفرغها، ويبدأ برش الألوان عليها، وبعد أن ينتهي، يكمل وضع الألوان بعد أن يزيل الكرتونة المفرغة عن الجدار، ويتوارى عن الأنظار.

ويتلقى محبو بانكسي في أنحاء العالم أخبار جدارياته، من خلال مدونات الإنترنت، في حين يواصل الرجل هروبه من الصحافيين ومطاردتهم له. وتظهر الرسوم الضخمة التي تركها على جدران الفصل العنصري، موهبة فريدة، وتؤكد بأن خلف لوحاته البسيطة، عملاً تخطيطياً كبيراً.

ومن الجداريات التي وضعها في اكثر من مكان صورة تلميذة فلسطينية، توقف جندياً إسرائيلياً ووجهه على الحائط، ثم تأخذ بتفتيشه.

أثارت هذه نقاشا بين الفلسطينيين، واعتبرها البعض مسيئة، مثل أبو عزيز، تاجر الخضار الذي رسم بانكسي اللوحة على جدار محله، وهو يقول: «تظهر هذه اللوحة ان تلاميذنا إرهابيون». وليست هذه الجدارية الوحيدة التي أغضبت الفلسطينيين، ففي أخرى يظهر جندي إسرائيلي وهو يدقق في هوية حمار ضخم اسود، مما اعتبرها البعض توصيفا للفلسطينيين بأنهم يهانون كالحمير على يد الجيش الإسرائيلي. وهو أمر واقعي، لكن المدهش أن الجدارية نكأت جروحا نائمة.

ربما تزعج هذه التفسيرات المراوغ بانكسي، وقد يكون قاصدا الاستفزاز وإثارة النقاش. فإحدى اكبر الجداريات التي رسمها في فلسطين، وتمثل ثورين كبيرين، احدهما اسود، وآخر ابيض، يسيران كل في اتجاه، وذنبيهما متشابكان، رأى فيها بعض الفلسطينيين تعبيرا عن مساواة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، في التسبب بعدم إنهاء الصراع. لكن ليست جميع أعمال الفنان مراوغة، فعلى بوابة الجدار جنوب القدس، رسم جدارية كبيرة تصور الجندي الإسرائيلي كمرتزق يعمل لاجل الدولارات.

وتثير اللوحة فضلا عن مغزاها المريح بالنسبة للفلسطينيين، أسئلة أخرى حول جرأة بانكسي وخفة يده، التي مكنته من الوصول إلى البوابة، وترك رسمته، وكأنه أحد المقاومين الفلسطينيين، الذين ينفذون عمليات ضد أهداف عسكرية إسرائيلية شديدة التحصين.

وتمكن بانكسي أن يجد ثقوبا في الجدار، لكي يثبت فيها ما يرمز لقدم فتى فلسطيني ممدودة، تبدو وكأنها تخترق الجدار. وبدا موقفه واضحا اكثر من السياسة الأميركية حين رسم بوش في اكثر من موقع على جدار الفصل، برأس يشبه الجمجمة، وقبعة مهرج متطاولة، وهو يحمل سلاحا للقتل.

هذه اللوحة جزء من أعمال أخرى تسخر من السياسة الأميركية، تظهر أطفالا، يبدون اشمئزازهم من رموز أميركية، مثل الصواريخ، التي يحولونها إلى دمى ويطلقون بدلا منها حمامات السلام.

ورسم أطفالا فلسطينيين، يحدثون فجوة في الجدار، مبشرا بتدميره، وفتاة فلسطينية جميلة، تخرج حمامات السلام من عينيها، ووضع سلما على الجدار كأنه يدعو الفلسطينيين إلى تسلقه وعدم الاستكانة إلى هذا الأسمنت المرتفع الذي يحاول صانعوه منع الشمس والهواء عنهم.

واستخدم بانكسي أحد رموزه الشهيرة وهو الفأر كرمز للمستضعفين، ليعلن تعاطفه مع الأولاد الفلسطينيين. فرسم لوحة لفأر يحمل مقلاعا ويستعد للمواجهة. وهي لوحة أغضبت الفلسطينيين ايضا لدلالات الفأر غير المريحة في الثقافة العربية.

وعشية الميلاد، رسم بانكسي جدرانا إسرائيلية دائرية مغلقة، خارجها بقايا أشجار تم اقتلاعها، وداخلها نمت شجرة عيد ميلاد كبيرة، تحمل في قمتها نجمة، لتصبح أطول من الجدران الإسرائيلية التي يبلغ ارتفاعها ثمانية أمتار. إشارة إلى هزيمة الجدار وبث الأمل.

وبينما ينشغل المتابعون لبانكسي، بجدارياته الجديدة، ينتظرون بفارغ الصبر مكان ظهوره المستقبلي المفاجىء.

http://www.asharqalawsat.com/details.asp?section=19&issue=10613&article=450323

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق