أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأربعاء، 14 نوفمبر 2007

يوميات فلسطيني في الحرب العالمية الثانية

ما الذي كان يهم مواطناً فلسطينياً في الحرب العالمية الثانية؟ بعد أن هدأت، نسبيا، الثورات العديدة، التي خاضها الفلسطينيون، طول العقود التي سبقت الحرب، حيث كانت بريطانيا المنتدبة على فلسطين، ودول عربية أخرى، أحد أطراف تلك الحرب.

ربما تقدم مفكرة شخصية لمواطن فلسطيني، من عائلة قعوار، تعود لعام 1941، حصلت عليها «الشرق الأوسط»، ملامح وظلال عن تلك الهموم، في سنوات الانتظار لما هو قادم. أول ما نلحظه أن صاحب المفكرة يتحرك في فضاء مكاني واسع، مقارنة بوضع مواطن فلسطيني أو عربي اليوم. بل تصعب المقارنة، بين تلك الظروف، ومثيلاتها الآن.

صاحب المفكرة يرتب جداول ديونه ومشترياته، ويتطرق إلى مشاكله مع البلدية، يبتاع أغراضه، من مدن فلسطينية عديدة، كحيفا، ويافا، والقدس، وبيت لحم، ويتنقل بينها، ويمتد نشاطه إلى مصر، التي يبدو تحركه فيها طبيعيا، مثل تحركه في فلسطين. في المفكرة عناوين لأصدقاء ومعارف في مصر، يشير إلى انه أرسل لهم مكاتبات، أو دل آخرين عليهم. وتتطرق المفكرة، إلى قضايا خاصة وحميمة، مثل انتهاء «العلاقات الأخوية» مع «دار...» (يقصد عائلة كذا) ويذكر إحدى العائلات، والسبب هو «السمسرة». وتبقى هذه الكلمة الأخيرة المفزعة غامضة على نحو كبير، فلا يعرف بالضبط المقصود منها. ومثلما تقلق صاحب المفكرة «السمسرة»، تقلقه أيضا أشياء أخرى مثل بحثه عن سم للفئران، يشير إلى اسمه بالأحرف اللاتينية، ويذكر أسماء أدوية باللاتينية أيضا مثل دواء لمرض (السلطعان)، ويقصد السرطان.

ويحدد في مفكرته مواعيد، ليسمع فيها أغاني معينة، ينتظر بثها من الإذاعة «طلبتها الحبيبة من القدس» ويرمز إليها بالحرفين: أ. ف. من هذه الأغاني: بحب من غير أمل، والصبا والجمال، يا ورد من يشتريك. بالإضافة إلى الأغاني، فإن صاحب المفكرة، يهوى قيادة الدراجات النارية، ويذكر في اكثر من موضع، الزمن الذي اصدر فيه رخصا لقيادة هذه الدراجات ومتى تنتهي، ومقدار الرسوم.

وتحوي المفكرة، عناوين عديدة لمعارف فلسطينيين مهاجرين إلى أميركا، وآخرين من الأجانب، مع إشارات إلى مراسلات معهم، تؤكد حلمه المبكر بالهجرة، من هذا الشرق الأوسط الصاخب، بالحروب والثورات.

ونجد، ما يمكن تسميته، تنبها مبكرا لديه، لضرورة تعلم اللغة العبرية، التي ستصبح بعد سنوات قليلة، اللغة الرسمية لدولة إسرائيل، من خلال إشارة في مفكرته إلى كتاب «اسهل طريقة لتعلم اللغة العبرية بدون معلم، تأليف محمد عطية».

وسيكون من الصعب على أي باحث يتصفح هذه المفكرة الصغيرة (7سم x 10سم) أن يفهم كيف كان صاحبها يدون تفاصيل حياتها وسط زحام صفحاتها بالرسوم الكاريكاتورية، والصور، وخطب الزعيم البريطاني تشرشل، والتصريحات والمقالات، التي لا تناسب عادة، وضعها في مفكرة شخصية بهذا الحجم.

المفكرة التي طبعت عليها كل هذه التفاصيل الدعائية، منتجة في مصر، ونستطيع أن نقدر بأنها نموذج لمفكرات انتشرت تلك الفترة، وكان بإمكان الفلسطيني أو المواطن العربي ابتياعها في بلده، لتسجيل ملاحظاته، ومواعيده، وعناوينه، عليها.

واضح أن الدعاية المبثوثة داخل المفكرة تتوجه للرأي العام العربي، ففي الصفحات الأولى، إحصائية عن عدد المسلمين في الإمبراطورية البريطانية «الموالين لحكومتها، والمؤيدين لها في حربها من اجل الحق والحرية». وعددهم هائل وفقا للمفكرة وهو (222718000) ولا يتضمن ذلك عدد المسلمين في دولتين إسلاميتين حليفتين هما مصر والعراق. ففي مصر كانوا 15 مليونا، وفي العراق 4 ملايين.

وتتجاهل دعايات المفكرة معتنقي الأديان الأخرى تحت لواء الإمبراطورية البريطانية، مثل صاحب المفكرة نفسه، وهو مسيحي.

وتحت عنوان الإذاعات العربية التي يجب أن تسمعها، تورد المفكرة، الترددات الإذاعية وأوقاتها، وما تبثه محطات الراديو الرسمية البريطانية، للسكان في مدن معينة مثل القاهرة، ولندن، وأنقرة، وبغداد، وعدن، والقدس.

ومن ضمن ما طبع على المفكرة رسوم كاريكاتيرية، تستعين بشخصية المصري أفندي، لإيصال خطابها الدعائي، مثل رسم يظهره وهو يعلق على الأسطول الإيطالي الذي اصبح «طعمة للأسماك في قاع البحر الأبيض»، فيعلق على ذلك قائلا: «اهو ده احسن مكان يختبئ فيه الأسطول الإيطالي». ويمثل رسم آخر غرفة صف، يسأل فيها المعلم تلاميذه: ما هو الجوع؟، فيرد أحدهم: هو ما يشعر به الإيطاليون والألمان الآن.

ولا تخلو الرسوم من فجاجة، واستهتار بعقول المتلقين، وبعضها يمثل هتلر نفسه وهو يردد يائسا:

* «يا موت خذ ما أبقت

- الآلام والأحزان مني

* بيني وبينك خطوة

- إن تخطها فرجت عني».

وتمتلئ المفكرة بالصور الفوتوغرافية، للقوات البريطانية بمختلف اذرعها، وللقادة البريطانيين، والملك جورج السادس، والأمراء والأميرات. وجهد كاتب التعليقات على الصور، يبدو بسيطا. كأن نقرأ مثلا: «البساطة والتواضع ماثلتان في هذه الصورة الرائعة التي تضم صاحبي الجلالة وولية عهدها الأميرة اليصابات وشقيقتها الأميرة مارجريت روز»، و«المستر انتوني ايدن وزير الحربية البريطانية الفتي يتلطف في الحديث مع احد الجنود البريطانيين أثناء زيارته التاريخية لمصر»، و«جنود الأتراك المرحون بطبعهم، ساعة وصولهم إلى الشواطئ المصرية وقد راح أحدهم يطرب بعض الصيادين المصريين بأنغام مزماره».

وتعرض المفكرة صورة لمدفع تحتها التعليق التالي: «مدفع بريطاني جبار من طراز هاوينزر، وقد ربض كالليث الهصور متأهبا لبعث زئيره الناري الذي يفتك بما في طريقه»، وصورة أخرى لبعض جنود فرقة بريطانية وهم «يتدربون على استخدام مدفع رشاش، تأهبا لاستقبال صبيان المظلات النازية احسن استقبال».

وطبعت على المفكرة آراء، على شكل مقالات وتصريحات لشخصيات سياسية وعربية، تدعم بريطانيا في حربها مثل د. احمد ماهر باشا الذي يقول في مقال مطول: «رأيي الحازم الجازم أن انتصار إنجلترا في الحرب الراهنة اكبر فائدة لمصر من الناحيتين السياسية والاقتصادية». أما الدكتور محمد حسين هيكل باشا فيكتب «انظر إلى حالة مصر اليوم، وهي تنعم بنعمة الديمقراطية مع حليفة قوية وتعيش هانئة في نظامها السياسي، وتبدي رأيها في أعمال الحكومة بواسطة البرلمان، أو بواسطة الصحافة الممثلة للرأي العام، وتنفذ هذه الأعمال بكل حرية وترفض منها ما لا تريده». ويصل إلى نتيجة «لا اشك أن كل مصري يود انتصار الديمقراطية التي تدافع عنها إنجلترا وتنفق الملايين في سبيلها».

ويدافع الدكتور حافظ عفيفي باشا، عن «ما في المعاهدة الإنجليزية المصرية من ميزات»، وهو الذي وقع عليها قائلا: «انني اعتقد ليس في القيود التي تضمنتها ما يضع أية عقبة غير قابلة للتذليل أمام حكومة رشيدة تريد أن تسير بمصر في طريق الإصلاح والتجديد والرقي».

ولكن المثير في المفكرة هو «الخطاب الديني» المؤيد لبريطانيا إلى درجة الإيحاء بأنها دولة إسلامية. وفي هذا الشأن نقرأ للشيخ محمود أبو العيون قوله: بأن هناك علاقات سياسية وثيقة تربط الإسلام ببريطانيا العظمى. ولا يمكن لهذه العلاقات ان تنفصم نظرا لمتانتها وقوتها وإدراك كل من بريطانيا العظمى والدول الإسلامية حقيقة ذلك الشعور الذي يربطها جميعا. ويقرر أبو العيون، في مقاله المسهب، بأن فرنسا: «هي كذلك دولة إسلامية كبيرة». ويضيف «وفي مصلحة مثلنا الأعلى أن يرجو المسلمون جميعا، في مشارق الأرض ومغاربها، رجاء صادقا بكل قوتهم، انتصارا حاسما ونهائيا لبريطانيا العظمى وفرنسا».

وطبعت على المفكرة أيضاً مقالات طريفة، تصب في مجرى الدعاية لبريطانيا، مثل مقال لجوستاف لوبون يقارن فيه بين ثلاثة من العلماء أحدهم ألماني، وثانيهم بريطاني، وثالثهم فرنسي، طلب منهم أن يكتبوا مقالا في وصف الجمل، وماذا فعلوا لإنجاز المقال.

ويصل إلى نتيجة أن البريطاني وهو «رجل بسيط في طبعه» هو من بزه زميليه، عندما نجح بسفره إلى الصحراء موطن الجمل ليكتب عنه، بعكس الألماني «المتعلم الدقيق» الذي عمد إلى كافة المراجع العلمية التي تحدثت عن الجمل، والفرنسي «الرقيق اللطيف» الذي عمد إلى سحر الخيال، وجمال البيان، ورقة اللفظ، وعذوبة اللحن ليكتب عن الجمل.

وتصف المفكرة في صفحاتها رئيس الوزراء البريطاني آنذاك ونستون تشرشل بـ «المستر تشرشل قائد الديمقراطية الجريء».

ولا يوجد ما يؤكد إلى أي مدى كان صاحب المفكرة، متأثرا بهذه الجرعة الزائدة جدا من الدعاية. ولكن من المؤكد أن الظروف التي عاشها كانت طاردة، جعلته يهاجر، من العالم العربي إلى غير رجعة. ومن المؤكد، أيضا، بأن الدعايات الفجة المطبوعة على المفكرة والتي تعتبر المواطن قاصراً وساذجا، بقيت ملازمة لسنوات طويلة، الخطاب الرسمي العربي، وما زالت ذيولها موجودة حتى الآن. أما بالنسبة لبريطانيا التي غادرت المنطقة، تاركة وراءها هذا الخطاب، مثل أشياء أخرى كثيرة، فأعادت بناء نفسها بعد الحرب، وآخر ما كانت تحتاجه هو استغباء مواطنيها أو عدم احترام عقولهم.

http://www.asharqalawsat.com/details.asp?section=19&issue=10578&article=445528

هناك تعليق واحد: